وبالنظر إلى هذا الكلام يبدو متداعيا، إذ أنّ النابغة - وهو العربي الخالص المحيط بأسرار لغته وأساليبها - ليس بحاجة إلى أن يعرف مصطلحات وضعت في عصور لاحقة له في مواجهة نشو اللحن، وشيوع الخطأ، وفساد الملكات، ولذلك رأينا غلام النابغة لم ينتظم ذكر هذه المصطلحات، وكذلك ليس النابغة بحاجة إلى أن يعرف منطق وفلسفة أرسطو حتى يفكّر وإلا فلنا التفكير الفطري لدى الإنسان، وهذا مما لا يقول به أحد!!.
على أنّ النابغة كان أقرب الجاهليين إلى فترة ظهور الإسلام، وقد حكى عنه الشعراء المخضرمون الذين أدركوا ظهور الإسلام، كالأعشى، وحسّان والخنساء، مما يجعلنا مطمئنين إلى صدق الرواية عنهم.
ومن الطريف أنّ النابغة الناقد لم يسلم هو الآخر من نقد الآخرين، فقد عابوا عليه: (الإقواء) [7] في شعره، فقد ذكر ابن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء) : "وكان يُقْوِي في شعره، فعيب ذلك عليه، واسمعوه في غِنَاء قوله:
عَجْلانَ ذا زادٍ وغَيْرَ مُزَوِّدِ
أَمِنْ آلِ مَيَّةَ رَائحٌ أَو مُغْتَدى
وبذاكَ خبَّرَنا الغُدافُ الأسودُ
زَعَمَ البَوارِحُ أنَّ رِحْلتَنَا غَداً
ولما سمع النابغة بشعره فَطن لهذا العيب الذي يُذْهِبُ التناسق في النَّغم، وتنبّه إلى أنّ الإقواء معيب، وقد تحرّز عنه فيما بعد، ولم يعد إليه، وقال: "قَدِمْتُ الحجاز وفي شعري ضعف, ورحلت عنها وأنا أشعر الناس" [8] .
فإذا ما تركنا النابغة الشيخ شاهدنا طرفة بن العبد البكري الصبي الفتى ينكر على الشاعر المتلمس المسيَّب ابن عَلسَ إطلاقه سمة: الصَّيْعَرِيَّةُ على الجمل في قوله:
بنَاج عَلَيْه الصَّيْعَرِيَّةُ مِكْدَم
وقَدْ أتَنَاسى الهَمَّ عِنْد ادَّكَارِه