"وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلا رجاء هذه النعمى، ولا يناجز من استمطله في حرية، ولا يعاتب بأطراف القنا من تمادى في عتبه، إلا لتكون الكلمة مجموعة، والدعوة إلى سامعها مرفوعة فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا، وكانت الألسنة ربما سلقته [8] فأنضج قلوبها [9] بالاحتقار، وكانت الخواطر ربما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيرا خاطر، ومن رام صفقة رابحة تجاسر، ومن سما لأن يجلى [10] غمرة [11] غامر، وإلا فإن القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم [12] فتقضها، ويضعف في أيديها مهر [13] القوائم فتقضها [14] ، هذا إلى كون القعود لا يقضى فرض الله في الجهاد، ولا يرعى به حق الله في العباد، ولا يوفى به واجب [15] التقليد الذي تطوقه الخادم من أئمة قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون".
ولما كان الكتاب مرسلا إلى الخليفة، فقد رأى القاضي الفاضل برأيه الحصيف أن ينسب فضل الجهاد إلى الخلفاء العباسيين ولكنه لم ينس الإشادة بصلاح الدين الذي جاهد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، رعاية لحق الرعية، وحق التقليد الذي في عنقه للخلافة العباسية التي تقضي بالحق والعدل.
وهو يقرر في هذه الفقرة سعي صلاح الدين لهذه الغاية، ومقاساته الأهوال من أجلها، وهو يعلم أن من الناس من ربما سلقوه بألسنتهم من أجل نهوضه بالجهاد، فما لهؤلاء عنده من جواب غير الاحتقار، وأن منهم من يتغيظون تغيظا كبيرا، فلا يقابل ذلك منهم إلا بالحلم والاصطبار.
والفن الفاضلي يتجلى في هذه العبارة "وكانت الألسنة ربما سلقته، فأنضج قلوبها بالاحتقار"فالمراد بقلوبها هنا هو قلوب أصحاب الألسنة، فهنا مجاز لطيف من إبداع القاضي الفاضل.