تدبير تجارتك وتربيب أموالك أولى بوقتك واهتمامك، أم تخشى أن يفجأك المفتش فيلقاك مقصراً مهملا، ولكنك تعلم أنه لا تثريب عليك في ذلك ولا تأثيم، فكثيراً ما دعوت رؤساء ذلك المفتش ومن بيدهم الحل والعقد إلى حفلات تقيمها لهم وموائد، وكثيراً ما قدمت إليهم الهدايا والتحف، فأنت بهذا في حصن حصين من غوائل الوظيفة، وفي مأمن أمين من عوادي الإهمال والتقصير.
وهممت أن أجادل وأدافع وأبين ما في قوله من خطأ وجناية وتضييع أمانة، ولكن صوت المؤذن لصلاة العشاء وخروج المشترين من المكتبة إلى المسجد لم يدعا مجالا للجدل ولا للبيع والشراء.
ودخلت المسجد مع الداخلين، وصليت مع المصلين وأنا مشغول البال مهموم القلب ثائر العواطف، وانتهت الصلاة وأنا لا أذكر شيئا من صلاتي ولا شيئا مما قرأه الإمام في تلك الصلاة، ولم تصح نفسي إلا وأنا علة عتبات المسجد أدس قدمي في الحذاء.
وما أسرع ما تعزيت وتخففت من تلك الهموم بتلك اللمسات التي أحسّ بها جيبي وما في تلك الجيب من أوراق نقدية قد ملأت منها كل جانب، وكانت تلك اللمسات متتابعة ما تكاد تنقضي حتى تبدأ، وكثيراً ما كانت عيني تحسد يدي على تلك اللمسات فترسل النظرات وراءها تشارك وتستمتع، وما كانت أذني بمعزل عن تلك المتعة، فما أكثر ما قالت ليدي في رقة واستعطاف: ناشدتك الله يا أختي أن تحركي تلك الأوراق بقوة فإن لها خشخشة مطربة وحفحفة لذيذة!! وقبل أن أخلص من السوق بقليل روعت يدي ترويعاً شديداً حين لمست جيبي فهوت ولم تجد تلك الربوة الصغيرة التي كانت تملأ كفها وتزيد، وكاد يصيبها شلل لولا أن الشلل في تلك اللحظات كان مصيبة أخرى، فاستجمعت قواها وأخذت تروح وتجيء في الجيوب كلها محمومة مرتعشة تظن جيباً أخرى قد استضافت تلك الأموال، ولكن تلك الأموال كان قد استضافها مكان آخر بعيد لا يعلمه إلا الله.