ورجعت أدراجي أرسل النظرات هنا وهناك فوق أرض الشارع وفي زحمة الخطأ واشتجار الأقدام، لعل تلك الأوراق سقطت في الطريق.

وبينا أنا ذاهل عما حولي مطرق الرأس إلى الأرض إذا شيء يصدم ذلك الرأس بعنف فيلقيني على الأرض، وتجمع الناس من حولي يساعدونني على القيام ويلومونني ويقولون: هذا الرجل الذي يحمل صناديق الخشب على ظهره كان يصيح بأعلى صوته مراراً وتكرارا يحذر الناس! الخشب الخشب! أفلم تسمع إذا كنت لا ترى؟! أو لم تر إذا كنت لا تسمع؟!

وأقبل الرجل الحامل يعتذر بكلمات أحسست فيها الحسرة وبنبرات صوت شاع فيها الأسف، وقبلت عذر الرجل، فقد بذل في تحذيري كل جهد، وكانت الصدمة منه على غير قصد، وكانت مني غفلة وشرود خاطر.

وسرت إلى البيت وئيد الخطا ظالع المشية، وكانت نفسي تحدثني في أثناء العودة وتقول: كان لابد من قبول عذر الرجل، فقد ضاعت ثروتك وأصبحت ضعيفاً مسكينا لا حول ولا طول ولا مال، ومن كان في مثل هذه الحال فلا ينبغي له أن يفعل غير ما فعلت، أما لو كان مالك لا يزال في جيبك فما كان ينبغي لك إلا أن تلطم وتصدم وتغلظ القول.

ولم يعجبني حديث نفسي هذا، فأعرضت عنه وجعلته دبر أذنيّ وتحت قدميّ، فقد كان في اعتذار الرجل إليّ تكريم لي وتعظيم، وكان في قبولي العذر منه إحسان ومودة، ثم كان فيما قدمه من عذر وفيما قدمته من عفو مؤاخاة أضاءت لها وجوه الناس، وعمل صالح لا يضيع أجره عند الله.

وطرقت باب البيت، واستقبلني أهله وقد راعهم كدم في الجبين، واضطراب في الخطا، وصفرة في الوجه، ونبرات صوت حزينة أليمة خافتة لا تكاد تبلغ الآذان، وأجبت قبل سؤال: لا تراعوا زلة قدم، وسقطة جسم، وكدوم ليست بذات بال.

- ولكن ما بال صوتك يبكي؟! وما بال عينيك قد غامتا؟! وها هو ذا وجهك قد غارت دماؤه!!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015