كنت … وكنت … وما أكثر ما كنت … وما أقل ما كنت … ثم ذقت طرفا من حلاوتك، وتمليت بقية عمر في صحبتك، وأصبحت أدور معك حيث تدور، وأقف معك حيثما تقف، قد استعبدني هواك وحبي إياك، حتى لم أعد أبصر الأمور إلا بعينيك، ولا أسمع الأشياء إلا بأذنيك، ولا يطيب لي العيش إلا حيث تكون.

بالأمس أمسكت حزمة سمينة من أوراقك الثمينة، أقلبها تارة وأعدّها تارة أخرى، ثم أرفه عن نفسي بتقسيمها ألفاً ألفا، ثم بتقسيمها ألفين ألفين، ثم أضمها كلها بعضها إلى بعض، وأسرح الطرف إليها في زهو وإعجاب، ثم حملني الزهو والإعجاب على أن أملأ جيبي بتلك الأوراق وأجوب بها الأسواق، ومع أن عينيّ كانتا تلبسان نظارات طبية جديدة، وكان إبصاري بهما قويا حديدا، مع ذلك كنت لفرط زهوي وغروري لا أرى الناس والأشياء إلا أشباحاً وظلالا، وعلى رغم أني فارقت شبابي منذ عهد بعيد، فقد خطوت خطوات الشباب السريعة الواسعة الواثبة، ومضيت في السوق لا ألوي على شيء، ولا أعوج بشيء، وسرعان ما صدمت أحد العابرين فإذا هو لقى على الأرض يئن ويتلوى، ونظرت إليه من عل فوجدت فيه مسكيناً غريباً زريّ الهيأة، فحقرت شأنه، ومضيت لطيّي لا أبالي، والناس يرجمونني بنظرات ملؤها السخط والمقت، وفجأة رأيتني وأنا لا أدري أمام مكتبة ضخمة فخمة تموج بالكتب وبالمشترين موجا، وكاد حنيني الكمين القديم يقذفني إلى الداخل لولا صوت رنّ في أذني يقول: إلى أين؟! أتريد أن تعود إلى عهدك القديم وسيرتك الأولى؟! علام ذلك وفيمه؟! لقد نلت الشهادة منذ سنين بعيدة، وأصبحت بها موظفاً ذا درجة حميدة، فما أنت والكتب والمكتبات؟! تلك أيام قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وما بك من حاجة أن تعود، أتريد أن تدرس وتطالع؟ وما حاجتك إلى المطالعة والدرس؟! كان ذلك من أجل الامتحانات وقد نجحت في تلك الامتحانات، أتريدها توسيعاً لمعلومتك وتعميقاً لمفهوماتك في تحضير دروسك لطلابك؟ ولكن ما حاجتك إلى ذلك؟!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015