كنت من قبل أن تقوم بيننا هذه المودة أعيب أيما عيب أناساً على رغم ما يتسمون به من العلم والفضل يقبلون على جمعك وادخارك بشراهة، لا يعرفون فيك سكينة ولا أمنا، ولا يذوقون فيك راحة ولا نوما، وإذا ما سألت: علام هذا النصب الناصب، وفيما هذا السعي اللاغب؟! قال قائلهم: أريد أن أؤمن مستقبلي ومستقبل أولادي من بعدي، أتريد أن يعيش التجار ورجال الأعمال وأصحاب المهن وسائر الناس في سعة من العيش وخفض، ونعيش نحن رجال العلم في ضيق من العيش وحرمان من الدنيا وزهد في نعيم الحياة؟! ألسنا يا أخي بشراً من هؤلاء البشر؟! أفلا يكون حقاً وعدلا أن نستمتع كما يستمتعون وننعم كما ينعمون؟! لقد وفّر الناس لأنفسهم أموالا ضمنت لهم مستقبلهم، ونالوا من الطيبات ما طابت به أنفسهم، وأخذوا من أسباب الحياة ما نعمت به حياتهم، فإذا وفرنا لأنفسنا ما وفروا، ونلنا من الطيبات ما نالوا، أفنكون بذلك قد اجترحنا السيئات ونلقى من بعد أثاما؟!
كنت قبل أن عرفتك أيها المال أنعم بحياتي، وأحسن التصرف فيما أدع وفيما آتي، وأجد أيامي راضية واسعة مباركة، أعبد الله في طمأنينة وسكينة وحضور قلب، وأحضر دروس غير معجل ولا كاره، وأذهب إلى مكان تدريسي مبكراً، وألقى طلابي هاشاً باشاً نشيطاً، ثم لا أعدم مع هذا أوقاتاً طيبة أصاحب فيها علماء رحلوا عن هذه الحياة الدنيا منذ قرون، وقد شغلوا عن تأمين مستقبلهم ومستقبل أبنائهم في الحياة الدنيا، وعن التمتع بالطيبات من الرزق والرفاه من العيش، قد شغلوا عن ذلك كله بتأمين مستقبلهم في الدار الآخرة، وتأمين مستقبل أبناء المسلمين بتركة مباركة غنية من العلم والأدب والمعرفة.