من هذه الأصول الأولى تعرف المسلمون أهمية المسجد في حياتهم فكان لهم على مر الدهر المعبد الذي فيه يجتمعون لإقامة الصلاة، والمدرسة التي يتلقون فيها علم الدنيا والآخرة، والندوة التي يبحثون في ظلها معضلاتهم اليومية والأسبوعية، والمركز الذي يتدربون فيه على تطبيق معاني الإسلام في سلوكهم الفردي والاجتماعي والسياسي، والملاذ الآمن الذي يعمق بينهم روابط الأخوة، ويفتت الفوارق التي يحدثها اختلاف المنازل الاجتماعية بين الناس فيعودون كما يريد لهم الإسلام خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، أمة تجمعها أخوة الإيمان، ويتساوى فيها الأفراد في حق الكرامة والعدالة والحياة، فلا يستكبر فيها قوي على ضعيف، ولا يذل ضعيفها لقوي، لأنهم كلهم أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين…
جامعات شعبية:
وهكذا أخذ المسجد سبيله في ضبط المسيرة الإسلامية، حتى لقد كانت المساجد الجامعة في صدر الإسلام تؤدي بجانب رسالتها الدينية عدة مهام، فمن على منابرها تذاع أوامر الدولة وجيهاتها، وفيها تنعقد مجالس القضاء للحكم بين الناس.
"وقد شاهد ناصر خسرو في جامع عمرو بن العاص رضي الله عنه محرري الصكوك والعقود، كما رأى فيه مجلس قاضي القضاة ويقول إنه: كان في الزيادة الغربية من المسجد، كما كان فيها مجلس قاضي الحكم الشافعي، ومجلس القاضي المالكي…"ٍ، وكذلك عاين ابن رستة وهو من رجال القرن الثالث الهجري، بيت المال الخاص بحفظ أموال اليتامى في هذا المسجد نفسه، ووصفه بأنه كان أمام المنبر، وأنه شبه قبة عليها أبواب من حديد، ثم نقل إلى صحن المسجد، وحتى اليوم لا يزال البناء الخاص ببيت المال قائماً في الجامع الأموي بدمشق، وفي الجامع الكبير بمدينة حماة وإن هو قد خلا من كل مال…