من هذا المسجد المبارك تفجرت ينابيع العلم والهدى وأصول الحضارة المثلى، التي ما لبثت أن عمت العالم فغيرت معالمه، وشقت له الطريق إلى تاريخ لا عهد له بمثله من قبل.
وأدرك الرعيل الأول عظم الأمانة، فتزود لها بكل ما وسعه من معاني الوحي حتى كان الواحد منهم يغشى سوق المدينة، فيخشى أن يشغل المسلمون بصفقاتها عن ذلك الخير الأكبر، فيهيب بهم أن هلم إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشاركوا في ميراثه الذي يتقاسمه الناس هناك [1] … وما ميراث النبوة سوى العلم الذي به سيشقون الأعين الكمه، ويفتحون القلوب الغلف..
لقد بدأ هذا المسجد مهامه في تنظيم المجتمع من أول يوم، فكان أشبه بمحطة الكهرباء، تمتد أسلاكها إلى كل ناحية، فتضيء وتحرك وتزود الجميع بكل نافع..
في هذا المسجد تلتقي الجماعة المؤمنة للصلوات الخمس خلف إمامها الأعظم صلى الله عليه وسلم فتتعلم منه كيف تؤديها بالخشوع الذي يحقق أهدافها العليا، وفيه تنتظم حول هاديها لتتلقى منه تعاليم السماء، التي تدربها على تنظيم مسيرتها في الطريق اللاحب الذي لا يعتري سالكه ضلال، وإلى هذا المسجد تهرع الجماعة المؤمنة كلما دعاها إمامها إلى (صلاة جامعة) تطرح في أعقابها المشكلة أو المشكلات الطوارئ، ليشاركوا في معالجتها بما أوتوا من خبرة وإخلاص لدينهم ولمصلحة مجتمعهم فيكتسبوا بذلك الدربة التي تعوزهم لضبط سلوكهم في نطاق الخير العام، ومن ثم لقيادة الأمم التي سيستخلفهم الله على إصلاحها وتوجيهها في قابل الأيام.