لقد أحس المسلمون - وخاصة العلماء - بالخطر الداهم الذي نشأ مع الوضع، فانتدبوا للمحافظة على السنة واجتهدوا في ذلك، فعنوا بالإسناد واهتموا به، وفحصوا أحوال الرواة بعد أن كانوا يرجحون توثيق من حدثهم، وطلبوا الأسانيد منهم قبل المتون، لأن السند للخبر كالنسب للبشر، ويخبرنا الإمام محمد بن سيرين عن ذلك فيقول: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة, قالوا: سموا لنا رجالكم, فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم, وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم" (?) ولذا نجدهم يتواصون بالاهتمام بالاسناد والسؤال عنه, يقول هشام بن عروة: "إذا حدثك رجل بحديث، فقل عن من هذا" (?) لأنه إذا أخبر عن الراوي بلسان المقال, فكأنه أخبر عن حال المروي بلسان الحال, وبالإضافة إلى ما تقدم, فقد حثوا العامة على الاحتياط في حمل الحديث, وألا يأخذوا إلا حديث من يوثق به علماً وديناً, فهذا محمد بن سيرين يقول: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" (?) وقد شاعت كلمته وغيرها في الناس, فأصبح الإسناد أمراً بديهياً حتى عند العامة (?) . ولشدة اهتمام الأمة بالإسناد عده علماؤها من فروض الكفاية, قال الحافظ ابن حجر: "ولكون الإسناد يعلم به الموضوع من غيره, كانت معرفته من فروض الكفاية" (?) .
الفصل الثالث:
مضاعفة النشاط العلمي في قواعد الحديث
من خلال النظر في الكتب المتعددة المصنفة في علوم الحديث، يتبين لنا الجهود التي بذلها علماء الأمة في تقعيد علم الحديث، وكيف قسمه أكثر العلماء إلى رواية ودراية, وكيف كانت جهود العلماء في هذين المجالين, وحين ظهر الوضع في الحديث ضاعف العلماء نشاطهم في الرواية والدراية على حد سواء.