ونستعرض الآن جزءاً آخر مما بذلوه في هذا المضمار, مما يناسب هذا الموضوع:
الفصل الأول: جمع الأحاديث الثابتة
كانت الأحاديث الثابتة مدونة في صدور الرجال ومسطرة في بطون الكتب، وكانت تلك وأولئك منتشرين في أنحاء العالم الإسلامي, وحين برز قرن الفتنة وظهرت معها طلائع الموضوعات ثم انتشرت وتكاثرت, خاف الغيورون على السنة من علماء الإسلام, فخفّوا إلى الصحابة يسمعون عنهم ويستفتونهم, وسارعوا إلى بطون صحفهم يستظهرونها.
وحين زاد تيار الوضع وطغى, وأخذت الزنادقة ومن لف لفهم يكتبون الموضوعات ويدسونها في الصحاح, ظهرت فكرة جمع الحديث في طبقة الإمام الزهري ومن بعدها كابن جريج وسفيان الثوري ومالك (?) ، فدونوا الحديث على الهيئة التي وجدوه عليها, ثم بحثوا عن أحوال الرواة، فأسقطوا ما يعرفون أنه موضوع, فقد كانوا - كما قال أبو داود - يجتهدون غاية الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث (?) .
ومن أشهر تلك الكتب وأولها موطأ الإمام مالك الذي يقول عنه الشافعي: "ما على أديم الأرض بعد كتاب الله - كتاب أصح من موطأ مالك" (?) .
ثم جاءت من بعدهم طبقة أخرى انتهجت جمع الأحاديث النبوية على طريقة المسانيد, فجمعت مايروى عن الصحابي في باب واحد رغم تعدد الموضوع، ونقت الحديث من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين - بخلاف الطبقة السابقة - ومن هؤلاء: بقي بن مخلد وإسحاق بن راهوية, وأحمد بن حنبل الذي انتقى مسنده المشهور - كما يقول - من 750 ألف حديث (?) , ومن هذا يتبين لنا ما كانوا يكابدونه من جهد في جمع الأحاديث, لكنهم في طريقتهم - كسابقيهم - يمزجون الصحيح بغيره من حسن وضعيف.