وبالفعل فقد ترك الوضع تراكمات نفسية في القلوب, فخف وقع كلامه صلى الله عليه وسلم صحيحه وموضوعه على النفوس، ولم يكن له ذلك التأثير الفعال في نفوس الناس ثم جاء دور التفسخ والانحلال فقضى على تلك النواميس وتمرد على الدين كله، بالإضافة إلى أن أعداء الإسلام استغلوا في إضلال هذا الجيل كثيراً من تلك الأحاديث الموضوعة وصاغوا على أساسها - بمكر وخبث - شبهات تنهض دليلاً على مازعموه من عدم صلاحية الإسلام للحياة, فَكوّن هذا وذاك ظلمات بعضها فوق بعض.
الفصل الخامس: ظاهرة القصاص
يمكن القول أن ظاهرة القصاص التي تفشت في المجتمع الإسلامي في بعض عصوره ما هي إلا أثر من آثار الوضع، ذلك لأن الموضوعات هي الركن الذي عليه يقومون, واللسان الذي به ينطقون, وهذا أمر طبيعي, لأن القصص يتطلب مادة كثيرة وجديدة تجذب آذان العامة إلى القاص وتشوقهم في الإقبال عليه والإصغاء إليه, فاضطروا إلى استعمال الخيال الخصب, ونسجوا منه الصور الغريبة وألصقوها على الرسول, فقد انتحل القصص عدد كبير من الناس, اتخذوها مهنة لهم يعيشون من ورائها, فكانت دوافع المبالغة والكذب عندهم قوية جداً حتى يجدوا المادة القصصية المشوقة التي تجلب السامعين ومن ثم تجذب لهم العطايا والفلوس (?) ، واتخذها آخرون وسيلة للشهرة, فكان جل همهم أن يجتمع الناس حولهم ويستغربون ما يقولون, فيضعون لهم ما يرضيهم ويثير عواطفهم, ولسان حال كل منهم يقول: "أنا فلان بن فلان فاعرفوني" كما قال علي رضي الله عنه (?) .
وعن آثارهم يقول الحافظ العراقي: "ومن آفاتهم أن يحدثوا كثيراً من العوام بما لا تبلغه عقولهم, فيقعوا في الاعتقادات السيئة, هذا لو كان صحيحاً, فكيف إذا كان باطلا (?) ".