فكان من الطبيعي أن يكتسب جيرانه حرمة من حرمته، ومكانة من مكانته تفوق كل حرمة وكل مكانة في أي بقعة من الأرض.
نصحت إحدى نساء العرب أبناءها في الجاهلية - وكانت شاعرة بليغة - بما يجب عليهم فعله تجاه البلد الحرام قائلة:
أَبَنيَّ لاَ تَظْلِم بمكة
لا الصَّغيرَ ولا الكبير
واحْفَظ محارمَها بُنَيَّ
ولا يَغْرَّنكَ الغرور
أَبنيَّ من يَظْلم بمكة
يَلْقَ أطراف الشُّرور
أَبنيَّ يُضْربُ وجهَه
وَيَلُحْ بخديه السعير
أَبنيَّ قَدْ جَربتُها
فوجدتُ ظالمها يبور
الله آمنها وما
بُنِيتْ بعرصتها قصور
والله آمن طيرها
والعُصم تأمن في ثبير
ولقد غزاها تُبَّعٌ
فكسا بَنيَّتَها الحبير
وأذل ربي ملكه
فيها فأوفى بالنذور
يمشي إليها حافياً
بفنائها ألفا بعير
والفيل أَهْلك جيشَه
يُرمون فيها بالصخور
فاسمع إذا حُدِّثت
وأفْهم كيف عاقبة الأمور [47]
وقال عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي حين خرج ومن معه إلى اليمن:
فسحَّت دموع العين تبكي لبلدة
بها حرم أَمْنٌ وفيها المشاعر
وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامُهُ
يظل به آمناً وفيه العصافر [48]
ومكة بحرمها وحريمها، حرَّمها الله، ولم يحرمها الناس، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال يوم الفتح، فتح مكة: "إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يَحِلَّ القتالُ فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلاّ ساعة من نهار، فهو حرام، بحُرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يَلَتقِطُ لقطته إلاَّ من عرَّفها ولايختلي خلاها"، وزاد في رواية: "إن الحرم لا يُعِيذ عاصياً، ولا فاراً بدمٍ ولافارّا بخَرْبَةٍ" [49] .