ومما يدل على أن هذه الكراهية خصوصية له صلى الله عليه وسلم، بسبب ما ذكرنا من سد الذريعة أن تتطرق إلى القرآن، ما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم ما يستقيم على لسانه وزن الشعر في الغالب كما مثلت، وقد توسع ابن العربي في أحكام القرآن الكريم في هذه المسألة وادعى أنه صلى الله عليه وسلم ما استقام بيت من الشعر على لسانه قط، وخرج كل ما روي عنه على ذلك وما أظن جميع الروايات تساعده كما سيأتي.
ومن أعظم ما يشكل في هذا المقام حديث في الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً يريه خير من أن يمتلئ شعراً". وفي رواية عن مسلم عن أبي سعيد قال: "بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله: "خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً". فهذا الحديث في ظاهره يدل على التنفير من الشعر والحث على هجره واجتنابه.. بل على تحريم تعاطيه فهو كقوله صلى الله عليه وسلم "من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في دم خنزير".
ولو كان ذلك كذلك: فما ورد من تمثله صلى الله عليه وسلم بالشعر وإنشاده بين يديه واستنشاده له واتخاذه شعراء كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله ابن رواحة.. يعارض هذا ويناقضه.. هذا مع أنه لا يعقل أن ينهى النبي صلى الله عليه وسلم العرب عن الشعر وقد علم مكانته في نفوسهم.
وقد روي عن السائب المخزومي رضي الله عنه أنه كان يقول: "أما والله لو كان الشعر محرماً لوردنا الرحبة كل يوم مراراً", (والرحبة الموضع الذي كانت تقام فيه الحدود) ولكن المعنى والله أعلم: هو النهي عن الاشتغال به عن القرآن، وعن ذكر الله، ويدل عليه لفظة "يمتلئ"فإن القلب إذا افتتن بالشعر فامتلأ منه لم يبق به موضع لذكر الله ودراسة القرآن والحديث..