ولا يكاد يزيد وصف الصحراء والمطية على الرُبْع من مادة الغزل وهي نسبة تغاير المألوف في شعر الأقدمين مغايرة ظاهرة، إذ هو في الغالب أذهب في الوصف والاستقصاء، وأكثرُ عددَ أبيات من الوقوف على الأطلال والنسيب. وتشهد قصائدهم أنهم كانوا يتبارون فنياً في إتقان هذا الحيّز من الوصف بتكثير الجزئيات والمشاهد والأحداث. وليس من غرضنا الدخول في بحث تعليلي لهذه الظاهرة في عملنا هذا، ولكن لا نشك أن بشارًا توخى الاختصار فيه توخياً مقصوداً، واجتزأ بأبيات خمسة استكمالاً لحلقات العمود الشعري، لعله كان يحس إحساساً غير كاذب أن مجتمع البصرة بعيد عن الاستمتاع بالمناخ الصحراوي وبالناقة والأسفار والأخطار، فهو يوجز ويحث الخطا إلى المدح قبل أن يبطل جفاف الوصف ما رقرق الغزل من إمتاع.
والمتأمل في هذا القسم من القصيدة يحكم أن بشاراً بذل جهداً مقصوداً لتأنيسه وتنعيمه وترقيقه بالاكتفاء بأقل قدر من الغريب الذي يستدعيه حديثُ الصحراء، ثم بإضافة ألفاظ مأنوسة تمازج الغريبة في سياق البيت فتعدّل من جفائها كقوله:
ن رفاضاً يمشين مشي النساء
22- وفلاة زوراء تلقى بها العي
ن نداء في الصبح أو كالنداء
23 - قد تجشمتها وللجندب الجو
فالألفاظ: "العين - مشي النساء - نداء في الصبح "تضفي ظلا من الرقة على الألفاظ الضخمة الخشنة "فلاة - زوراء - رفاضاً - تجشمتها - الجندب الجون يا يكاد يخفي غرابتها.
غرض القصيدة: المدح
تبدأ القصيدة قسمها الثاني بالبيت الثامن عشر معبرًا للمدح، والحق أن الشاعر ركز فيه وفي البيت التاسع عشر المعنيين الكبيرين اللذين نسج منهما الشاعر مُلاءة المدح كله، فهما نواة هذا القسم، ومن صورتي الكناية في كل منهما نعلم أن الكرم والشجاعة قوام حقيقة ممدوحه:
ك فتروى من بحره بدلاء
28 - همها أن تزور عقبة في المل
ب كما انشقت الدجى عن ضياء