ونجد في إتباع الغزل بحديث الصحراء والراحلة والسفر دليلاً آخر على استمساك بشار بالإطار العمودي في قصيدة المدح، وهو قسم اقتحم المقدمة على الشاعر اقتحاماً إذ لم يدخل في صميم العمل الفني من المقدمة، ويبدو الانقطاع بينه وبين الغزل إخلالاً فنيا كان الشاعر القديم يتخطاه كثيرًا بتخلص أو وصل حسن يضعف إحساسنا بالانقطاع وفجأة النقلة. ولعل شاعراً مخضرماً هو كعب بن زهير، كان من الكياسة الفنية بمكان في هذه الصورة اللبقة من الانتقال بعد مقدمته الغزلية المشار إليه سابقاً:

إلا العتاق النجيات لمراسيل

أمست سعاد بأرض لا يبلغها

ولا يبلغها إلا عذافرة

فيها على الأين إرقال وتبغيل [48]

فبهذين البيتن عبر بنا برزخاً إلى القسم الثاني من مقدمته، فهيأنا بسلسلة من الألفاظ الجديدة "عتاق - نجيات - مراسيل - عذافرة - إرقال - تبغيل "على الإيغال في جواء ثمانية.

عشر بيتاً في وصف الناقة. ولم يتهيَّأ لبشار تخلصٌ مرعيٌ على هذا النمط إذ ختم الغزل ببيت أعلن فيه عن يأسه من المحبوب وتسلّيه عنه بحضور مجالس القصف واللهو:

وتعزَّى قلبي وما من عزاء

22- فتسليت بالمعازف عنها

قد يكون هذا البيت خاتمة أدنى إلى الواقعية إذ يلقي ظلاً حقيقياً لسيرة شاعر مقبل على اللذة والمتاع ولبيئة حضرية آخذة بأسباب من الغناء، ولكن خاتمة من هذا الطراز منعت بشاراً من لطف تخلص ليس عليه بعسير. وهو لم يخطئه في انتقاله إلى القسم الثاني من القصيدة، وهو المدح:

فتروى من بحره بدلاء

28- همها أن تزور عقبة في الملك

وبذلك تحقق لحديث الرحلة والراحلة وصْلٌ بحرف المدح وهو سائبٌ من قبل الغزل، وبهذا الخلل يمكن إسقاط الغزل من غير أن يطرأ إخلال بنائي على القصيدة لا معنى ولا لفظاً، أو أن تكون المقدمة أشبه بقصيدة مُعدّة مسبقاً رُكّبت أو أضيفت في أول قصيدة المدح.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015