وهنالك على مقربة من المدينة الحبيبة خاض الاسلام أول معاركه الأبدية مع قتلة الأنبياء من يهود، وقد بلغت مؤامراتهم ذروة الهول حين أحاطوا برسول الله وصحابته من وراء، بينما أحدقت الوثنية بالمدينة من أمام، بكل ما تملك من حول وطول وخيلاء، واندفع خفافيش المنافقين من الداخل يبثون ألغام الخيانة في الخفاء.. فكانت محنة ابتلي بها المؤمنون وزلزلوا زلزالا كبيرا.. ولكنها لا تزدهم إلا تثبيتا وإيمانا، كما تزيد النار الذهب صفاء ولمعانا، فلم يهنوا ولم يستكينوا حتى دفع الله البلاء، وهزم الحلفاء وكفى المؤمنين القتال.
تلكم الذكريات.. هي بعض دروس الوحي، يتلقاها المؤمن في مهبط الوحي، فيتعلمون منها كيف يربطون وجودهم بأهداب الرسالة، التي ألفت في ربع قرن، من الأميين الضائعين في صحراء المجهول، خير أمة أخرجت للناس.. ثم قذفت بهم إلى الدنيا، كما تقذف الشمس بأشعتها، حياة للأرض الميتة، وضياء للأعين الزائغة، ودفئا للأكبد المقرورة، فإذا هم بعد قسوة الذئاب، رسل الرحمة الربانية، يحررون عباد الله من كل عبودية لسواه، ويضعون عن إخوتهم المعذبين أغلال السفاحين، فتعود بفضلهم إلى الحياة الذاوية بهجتها، وتشرق الأرض بعد الظلمة بنور ربها.
من هذه الذكريات يتعلمون دروس الصبر الذي قهر اليأس، ليثبتوا في وجه أعاصير اليوم، كما ثبت أسلافهم على أعاصير الأمس، واثقين بنصر الله كما وثقوا، مخلصين جهادهم لله كما أخلصوا.