وليس أحوج من مسلمي اليوم - معاصري النكبة المخزية - إلى الاستمداد من هذه المعاني, وهم يخوضون معركة الحياة والممات، في وجه أعداء لا عداد لهم، منهم اليهود، وفيهم المنافقون، وبينهم المثبطون، وعلى رأسهم المتواطئون مع أعداء الإيمان، المتاجرون بمدّ عيات الإسلام، يرفعون أصواتهم باسمه كلما رأوا في الإشادة به منفعة، ولكنهم لا يستكفون عن إقامة السدود دون أشعته، خشية أن يفسد مؤامراتهم التي يبيتونها عليه في الظلام!..
إن المؤمن الذي يسعد بزيارة هذا البلد الحبيب، لا يسعه أن ينسى كونه في عاصمة الإسلام الأولى، العاصمة التي عرفت البشرية فيها أولى أنموذج كامل للدولة الربانية، التي حطمت حواجز العصبيات الأسرية والقبلية والجنسية، فردت الناس بذلك إلى أخوة لم يصنعها الدم، ولكن نسجتها العقيدة التي يعلن قانونها الأساسي، أن البشر كلهم لآدم وآدم من تراب، أكرمهم عند الله أتقاهم، العاصمة التي انتهت إليها ذات يوم أزمة الدنيا، فهي تملي إرادتها على الحياة والناس، فتحكم ترفاتهم، كما تحكم القوانين الكونية حركة الفلك، لأن إرادتها من إرادة الله، وما وظيفتها إلا تحقيق المثل الأعلى للنظام الذي شاء الله أن يكون ضابط الأمن ومناط السعادة، لكل حي على هذه الأرض.
ولكن أشدّ ما يحزن هذا المؤمن.. أن يرى واقع هذه العاصمة، وقد تجردت من سلطان الخلافة، فلم تعد الدنيا كعهدها بالأمس.. لأن اليهودية التي ألبت الغوغاء على ثالث الخلفاء، قد شاء القدر أن تعرقل حركة المد السعيد، فيتحول مركز الثقل عنها إلى غيرها.. ثم لا يزال إرثها هذا ينتقل من بلد إلى آخر، حتى استحال مزقا تتوزعها الأيدي بين إقليم وإقليم؟
أجل.. لقد سلبت المدينة الحبيبة سلطانها السياسي على ربوع المسلمين، ولكن هل انقطع أثرها في وجودهم؟ هل فتر إيحاؤها إلى قلوبهم..؟