والمدينة حرم كلها، وفي كل شبر من هذا الحرم ذكريات وعبر ودروس، بها يجدد المسلم طاقته، ويشحن مدخراته، ويتزود بالقوة الروحية التي تعده لمجابهة الأحداث، بأقباس من العزيمة فوق مستوى الأحداث.. إنه حيثما يتلفت يستقبل الآثار الموحية.. فهنا (أحد) الجبل الذي يحبنا ونحبه.. أحد الذي شهد انتصار القلة المؤمنة، حين أخضعت نفسها لأمر قائدها المعصوم وهو يحركها بقانون السماء، ثم شهد المحنة الفاجعة التي نزلت بها حين وجد فيها من تستهويه الدنيا فيخالف عن أمره وهو يظن أنه غير ملوم..

وهنا بقية الخندق الذي يعلمنا كيف فهم المسلمون الأولون أمر ربهم بالاستعداد فلم يدخروا وسعا لتحصين وجودهم بكل ما وسعهم استخدامه من قوى الطبيعة، ولم يبخل واحد منهم بجهد يملكه، وهو يرى سيد ولد آدم المزود بعصمة الله، يتقدمهم في جرف التراب، وشق الصخور، حتى ليلجأون إليه في كل ما يعجزهم من ذلك، كما اعتادوا أن يلوذوا به في ساحات الروع، كلما احمرت الحدَق، وحمي وطيس القتال…

وهناك في الجانب الآخر.. ينتصب مسجد قباء كالحمامة البيضاء، المسجد الذي تعدل فيه الصلاة عمرة، لأنه أسس على التقوى فكان بذلك رمز الخلود، الذي يحققه الإخلاص للأحد المعبود.. تنتابه جموع المؤمنين صباح مساء، للتزود من موعود الأجر، الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مصليه…

ولا جرم إن منظر هذا المسجد الخالد ليذكر أولي الألباب كل يوم، بمأساة ذلك المسجد البائد، مسجد الضرار، الذي أسس ليكون مركز تجسس لأعداء الله ورسوله، فكان مصيره مصير الخيانة، تنتفخ حتى تتراءى ضخمة كبيرة، ولكنها ما إن تواجه الحقيقة حتى تتلاشى كأطياف السراب، حين تستكشفها العين المبصرة…

طور بواسطة نورين ميديا © 2015