وهذا ما فعلته سادات قريش حينما توفي زوجها الثاني؛ فقد أسرعوا إليها يطلبون يدها، لكنها رفضت بإباء وشمم، فاحترموا رغبتها، ولم ينبسوا ببنت شفة، وحسبوا أن الأمر كأن لم يكن، وكأنهم لم يتقدموا إليها.
وكان للسيدة خديجة رضي الله عنها العذر؛ لأنها قابلت صدمات الحياة في أول خطواتها على درجات الحياة؛ إذ قد مات زوجها الأول ولم تتعد السابعة عشر، ثم فقدت زوجها الثاني حين جاوزت العشرين، وقد تركا لها أولادا كبارا، فتقبلت ذلك كله بقلب كبير وصبر أكيد، وجلد لا يعرف اليأس، وهذا هو المعروف عن أهل البيئة الصحراوية.
لقد انصرفت لتربية أولادها، والإشراف على تأديبهم وتعليمهم، ورأت أنها استفادت من تجاربها فتوسعت مداركها وقوي فهمها، وزادت معرفتها، ورأت أن في إمكانها تنمية الأموال الطائلة التي في يدها؛ فأدلت بدلوها في التجارة حرفة قومها وأهلها، وليس الاشتغال بها عيبا، فالحنظلية زوج أبي لهب كانت تتاجر في العطور، وكذلك هند زوج أبي سفيان وغيرهما، واتجهت إلى التجارة وساعدت الأقارب وفي مقدمتهم ابن أخيها حكيم بن حزام، ومع استقلالها الكامل في تجارتها كانت تستشيره، وتأخذ برأيه، وكثيرا ما كان يراقب رجالها في الأسواق ويقدم لهم خدماته.
ولكن سرعان ما وعت جيدا ما يحتاج إليه الناس في الخارج والداخل، فصادراتها كانت التمر والزبيب والعطور والمعادن، والواردات هي الحرير والتوابل والأدوية والحجارة الكريمة والعاج والمنسوجات القطنية والحبوب والزيوت وغيرها.
وكانت ترسل عبيدها وخدمها - وفي مقدمتهم عبدها المخلص ميسرة - مع أناس تستأجرهم على أجر معلوم، وأحيانا كانت تعطي رجالا عرفوا بالخبرة والأمانة الأموال مضاربة.
قال ابن هشام: (وكانت السيدة خديجة بنت خويلد تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم) [5] .