كل هذه الأسباب جعلت نظرة جمهور الفقهاء أقرب إلى المذهب المختلط الذي يجمع بين مزايا المذهبين الآخرين المقيد والمطلق , ويخفف من مضارها , فهو يحدد أدلة الإثبات ولا يحد من سلطة القاضي في تقدير هذه الدلة , كما لا يطلق للقاضي الحرية ليتخذ دليله في الدعوى من أي دليل يراه أو يطمئن إليه , حتى لا يتعسف القضاة فتتمكن تهمة استغلالهم لسلطة وظيفتهم , فكان أن حدد الفقه الإسلامي طرقا للإثبات لا يتجاوزها القاضي ‘ وليس للخصوم أن يثبتوا دعواهم بغيرها.
وبالرغم من قولنا أن الفقه الإسلامي كان قريبا من مذهب الإثبات المختلط , إلا أنه قد حوى نظاماً لفثبات تفرد به وميزه عن القوانين التي أخذت بالمذهب المختلط , ذلك لأنه لم يكن متأثراً بمذهب معين , إنما هو تشريع من لدن حكيم خبير.
فإذا كان مذهب الإثبات المختلط قد ترك للقاضي الحرية في استخلاص حكمه من أي دليل يعرض عليه في الدعوى الجنائية , فإن الفقه الإسلامي قد قصم الدعاوى الجنائية إلى ثلاث طوائف , قيد الأدلة في طائفتين , وهما الحدود والقصاص , وترك له الحرية في طائفة التعزير , وسنرى إيضاحاً أكثر لهذا القول عند كلامنا عن القرائن إن شاء الله.
كما أن القواينين التي أخذت بالمذهب المختلط قد سعت إلى تقييد الإثبات في الدعوى المديمية بقدر كبير , فلم تأخذ بشهادة الشهود مثلاً إذا جاوز الحق المدعى به قدراً معيناً , كما لم تقبل إثبات بعص الحقوق المدنية إلا بالكتابة , بينما لا نجد هذه القيود في الفقه الإسلامي , فالشريعة الإسلامية بما تغرسه في الفرد من إصلاح وتهذيب , وبما تحثه عليه من مراقبة الله عز وجل تبعده عن تهمة الكذب والتزوير , فهي بذلك تفترض أمانة الشخص.