وبقليل من التأمل في مسيرة هذا الجزء من الرواية يتضح لك اضطرابه هو الآخر ذلك أن خبرا كهذه تسمعه خديجة من ميسرة ثم من ورقة من حقه أن يصل إلى محمد صلى الله عليه وسلم عقب زواجه أو خلال الخمس عشرة سنة التي سبقت الوحي، وهذا ما ترفضه الوقائع، التي تؤكد أن محمدا وخديجة كليهما كانا سواء في خلو ذهنيهما من أمر الوحي، إذ فاجأة على غير انتظار، وفاجأها به في جو من الورع المهيب، فلم تجد ما تقوله له سوى التذكير بفضائله التي لا يقاربها الشيطان.. وحسبنا دليلا حاسما على خلو ذهنه صلى الله عليه وسلم من موضوع النبوة كليا قول ربه له تبارك اسمه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ ... } (الشورى آية 52) وهو توكيد حازم لما سبق من قوله الآخر سبحانه في سورة الضحى {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ففي كلتا الآيتين تصوير عميق الدلالة على الوضع النفسي الذي كان يلابس محمدا صلى الله عليه وسلم قبل الوحي، فهو في حيرة لا يعرف السبيل إلى جلائها، فلا فكرة لديه عن رسالات الله، ولا يعرف من الإيمان سوى التوحيد الفطري الذي ينطق به كل شيء في هذا الكون، إلى أن فاجأه الزائر العظيم في أحضان حراء..
ومن هذا كله نجد أنفسنا تلقاء أمرين: أحدهما الشك في خبر الراهب النصراني عن الغمام والملائكة والشجرة التي ما نزل تحتها قط إلا نبي [11] والثاني أن يكون اتصال خديجة بورقة لاستطلاع رأيه لم يأت عقيب عودته صلى الله عليه وسلم ومسيرة من الشام، بل الأحرى أن يكون حصوله على إثر نزول الوحي مباشرة، يوم عاد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف من الرعب، فذهبت به إلى ابن عمها الذي اطمأن وبشره بالنبوة [12] .