وعلى هذا التقدير يكون ثم تقديم وتأخير في أجزاء الحادث المتصل ببشرى ورقة.. ولعلنا لو لأعدنا ترتيب هذه الأجزاء وفق منطق الحوادث لوجدنا أنفسنا تلقاء الصورة التالية أو قريبا منها:
يعود رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إثر اللحظة الهائلة التي قدر فيها لقاء جبريل (عليه السلام) إلى خديجة يرتجف من الروع، فتتلقاه بأحسن ما تملك من كريم الرعاية وجميل البيان، حتى إذا اطمأن إلى هدوئه، أخذت سبيلها في زورة عجلي إلى ابن عمها ورقة، أعلم أهل مكة بأمر الدين، فما إن يسمع حديثها عن تلك المفاجأة حتى يهزه الوجد، ويأخذ في التسبيح: قدوس قدوس.. ثم يصرح بالبشرى: "والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتني يا جديجة لقد جاءه الناموس الأكبر –جبريل- وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت [13] ".
وهكذا تعود خديجة (رضي الله عنها) إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) بكلمة ورقة تشد بها عزيمته، ولتقول له في ثقة عالية وبألفاظ ورقة نفسها: "والذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة [14] ". وطلبا للمزيد من التثبيت ترى أن يسمع محمد تلك البشرى الشافية من فم صاحبها مباشرة، ولذلك (انطلقت بمحمد حتى أتت ورقة فقالت له: "يا ابن عم اسمع من ابن أخيك".. فأخبره (صلى الله عليه وسلم) خبر ما رأى فقال له ورقة: "هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى [15] ". ومن هنا جعلت الأشواق تتفاعل في صدر ورقة إلى اليوم الذي يؤمر فيه النبي الخاتم بتبليغ رسالة ربه، فلا يتمالك أن يترجمها بتلك الأبيات التي أثبتناها في ما تقدم. ثم يلقي محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو يطوف بالبيت فيستعيد خبره، ولعله يستوضحه عما جدّ له، فيقص عليه ما رأى وما سمع، فيكرر ورقة ما قاله من قبل مؤكدا بشراه بالقسم: "والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة" [16] .