وأبو العتاهية في ذات الأمثال هذه يأتينا بحكم أخلاقية وأمثال سائرة سجّل فيها خلاصة تجاربه وآرائه في الحياة مصوغة صياغة مضغوطة مركزة في أخصر عبارة بحيث تبدو في صورة الأمثال السائرة- كما هو واضح من اسمها- فتخف على الألسنة، وتعلق بالذاكرة، فيسهل تداولها، ويسرع في الذهن استدعاؤها واستحضارها، ومن هنا يحتسبها من يحتسبها في الشعر التعليمي [40] ، ويضعها من يضعها في أدب الحكمة!..
والقصيدة لا تعرض لموضوع واحد، أو لفكرة واحدة، ولكنها تعرض لعدة موضوعات، ولأفكار شتى، فكلّ بيت يعرض فكرة مستقلة، وقد تشترك عدة أبيات في عرض فكرة، ولكن يظل كل بيت وحدة قائمة بذاتها، ترض جانبا مستقلا من جوانب الفكرة العامة [41] . يقول أبو العتاهية:
ما أكثر القوت لمن يموت
... حسبك ما تبتغيه القوت
من اتّقى الله رجا وخافا
الفقر فيما جاوز الكفافا
فكل ما في الأرض لا يغنيكا
إن كان لا يغنيك ما يكفيكا
إن الصفاء بالقذى يكدّر
إن القليل بالقليل يكثر
ومنها:
وأوسط وأصغر وأكبر
لكل شيء معدن وجوهر
أصغره متصل بأكبره
وكل شيء لاحق بجوهره
ممزوجة الصفو بألوان القذى
مازالت الدنيا لنا دار أذى
لذا نتاج، ولذا نتاج
الخير والشر بها أزواج
يخبث بعض ويطيب بعض
من لك بالمحصن وليس محصن
خير وشر وهما ضدان
لكل إنسان طبيعتان
بينهما بؤن بعيد جدا
والخير والشر إذا ماعدّا
وهكذا تمضي الأرجوزة التي يتضح فيها تعدد الموضوعات وتشتت الأفكار الذي رّبما كان السبب فيه أنها لم تنظم في وقت واحد، وإنما نظمت في أوقات متباينة متباعدة، كلما خطر للشاعر خاطر، وعنت له فكرة جديرة بالتسجيل أسرع إلى تسجيلها رجزاً وألحقها بدفتره [42] .