وتصور رواية ثالثة: أن المائدة كانت تطير وترتفع، ثم تهبط إليهم، وهكذا استمر أمرها أربعين يوما.
وتصور رواية رابعة: أنه لم يأكل منها فقير إلا ولازمه الغنى طيلة حياته، ولم يطعم منها مريض إلا فارقه المرض، وظل مهاجرا له مادام حيا.
وهكذا سطرت الروايات، واختُلِقَت الأساطير، ومن عجب أن ننقل ما سبق من الروايات عن تفسير الزمخشري [58] والبيضاوي، وهما من كتب التفسير بالرأي لا بالرواية، ولو جاءنا النقل الصحيح بهذه الأخبار ما ترددنا في قبولها لحظة نهار.
7- التأويلات الصوفية بأنها مادة الغذاء الروحي:
نقل البيضاوي [59] في تفسيره عن بعض الصوفية تفسيرا للمائدة، وهو بنص عبارته: "المائدة هنا عبارة عن حقائق المعارف؛ فإنها غذاء الروح كما أن الأطعمة غذاء البدن، وعلى هذا فلعل الحال: أنهم رغبوا في حقائق لم يستعدوا للوقوف [60] عليها، فقال لهم عيسى عليه السلام: إن حصلتم الإيمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الاطلاع عليها، فلم يقلعوا عن السؤال وألحوا فيه، فسأل لأجل اقتراحهم، فبين سبحانه وتعالى أن إنزالها سهل، ولكن في خطر وخوف عاقبة، فإن السالك إذا انكشف له ما هو أعلى من مقامه، لعله لا يحتمله ولا يستقر له، فيضل به ضلالا بعيدا" اه.
وذهب القشيري يحمل آيات سورة المائدة أفكاره الصوفية؛ فقال [61] : "طلب المائدة المسيح عليه السلام لتسكن قلوبهم بما يشاهدونه من عظيم الآية وعجيب المعجزة؛ فعذروا وأجيبوا إليها، إذ كان مرادهم حصول اليقين وزيادة البصيرة.
ويقال كل يطلب سؤله على حسب ضرورته وحالته، فمنهم من كان سكونه في مائدة من الطعام يجدها، ومنهم من يكون سكونه في مائدة من الموارد يردها، وعزيز منهم من يجد الفناء [62] عن برهان يتأمله، أو بيان دليل يطلبه.