وشتان بين أمة طلب لهم نبيهم سكونا بإنزال مائدة عليهم، وبين أمة بدأهم الله سبحانه بإنزال السكينة عليهم، من غير سؤال أحد قال الله تعالى: {هُوَ الذِي أَنْزَل السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} (4: الفتح) ، وفرق بين مَن زيادة إيمانه بآياته التي تتلى عليهم، وبين مَن يكون سكونهم إلى كرامات وعطايا تباح لهم.
فلما انتهى القشيري إلى قوله جل ذكره: {قَال اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَليْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العَالمِينَ} (115: المائدة) : أجابه إلى سؤاله [63] لهم، ولكن توعدهم بأليم العقاب لو خالفوا بعده، ليعلم السالكون أن المراد إذا حصل، وأن الكرامة إذا تحققت، فالخطر أشد، والحال من الآفة أقرب، وكلما كانت الرتبة أعلى، كانت الآفة أخفى، ومحن الأكابر إذا حلت جلت" [64] اه.
8- تعقيب:
تفقد الألفاظ اللغوية دلالتها الحقيقية في الفكر الصوفي، ويخرج بها إلى متاهات لا إلى مجازات؛ فالمائدة هي مائدة المعارف، والحقائق الدينية أسرار محجبة وعلوم (مضنون بها على غير أهلها) ، وإذا انكشفت لذوي الرتب الأدنى ضلوا ضلالا بعيدا.
والمعلوم لكل مسلم أن الحقائق الدينية هي وحي الله إلى رسوله، وكلما ازداد المسلم علما، كان العلم سلما إلى اليقين لا إلى الشك، وكلما انكشف له حكم من أحكام الله واستمسك به، كان ذلك معبرا له إلى النجاة، لا (أن يضل ضلالا بعيدا) كما يذكر البيضاوي، أو تصبح (الآفة أخفى) كما قال القشيري، مع أنوار قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَليْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2: الأنفال) ، وقفة متجردة لما قال ما قال، ومع هذا فقد أجاد القشيري حين قارن بين من كانت المائدة سكونا لهم، وبين من بدأهم الله بالسكينة.