معلماً له بالذي لا يذهب عنه من أن الذي اخترته لنفسي غاية ما يسيء العدو به ويساء المولى منه. فالجلاء أخو القتل، والغربة أحد السباءين: قال الله تعالى: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم
وقد هجرت الأرض التي هي ظئري، والدار التي كانت مهادي، وغبت عن أم أنا واحدها، تمتد أنفاسها شوقاً لي، وتغض أجفانها حزناً علي، والله يرى بكاءها ويسمع لي على من ظلمني نداءها. فالاستجابة مضمونة للمخلص وللمظلوم، وقد حملت السمتين، واستوجبت الصفتين ولتكن بغيتك التي دخرها عليها كلمة تأمين وإشارة إلى تأنيس وتذكير، تراجعني بها فأظهر بحيث أنا آمنا، وألقي العصا مطمئناً. فإن وجدت محر الشفرة فالعوان لا تعلم الخمرَة فإن اشبهت الليلة البارحة، أعلمتني بذلك، فطلبت الأمن في مظانه، وتقريت السلامة في مواطنها. وصبرت حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. كل يوم هو في شأن. ومع اليوم غد ولكل حال معقب. ولربما أجلى لك المكروه عما تحمد. ولك يا سيدي في انتدابك لما ندبتك إليه الفضل، والأيادي قروض، والصنائع ودائع، لا يذهب العرف بين الله والناس. والتحية الطيبة والسلام المردد على سيدي
ولكن ابن زيدون كان قد ذاق من الدهر حلوه ومره، فلم يرض لنفسه بالذهاب إلى اشبيلية دون أن يكون على ثقة من أمره. فلذلك كتب رسائل بديعة إلى بعض المقربين من المعتضد، قم إلى المعتضد نفسه، ليمهد السبيل إلى الهجرة حتى إذا تحقق أنه سينزل في اشبيلية على الرحب والسعة أزمع الرحيل إليها. وكان ذلك في سنة 441 للهجرة.
واتفق في وقت فراره من قرطبة إلى اشبيلية أن صادفه عيد الأضحى فرأى الناس مبتهجين بالعيد، وهم يتزاورون ويتبادلون التهاني، وهو شريد طريد، ففاضت نفسه بوصف حاله:
خليليّ لا فطر يسر ولا أضحى! ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى!
لئن شاقني شرق العقاب، فلم أزل ... أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا
وما انفك جو في الرصافة مشعري ... دواعي بث تعقب الأسف البرحا
ويهتاج قصر الفارسي صبابة ... بقلبي لا يألو زناد الهوى قدحا
وليس ذميماً عهد مجلس ناصح ... فأقبل في فرط الولوع به نصحا