ولكن ابن جهور أصر على القعود عن إقالته، من كبوته. فلما رأى ابن زيدون أن كل ذلك لم يجده نفعاً قال يخاطبه:
قل للوزير وقد قطعت بمدحه ... عمري، فكان السجن منه ثوابي
لا تخش لائمتي بما قد جئته ... من ذاك فيّ ولا توقَّ عتابي
لم تُخطِ في أمري الصواب موفقاً ... هذا جزاء الشاعر الكذاب
ثم أنه تحيل في الهرب ونجح. فلما خرج من السجنن اختفى بقرطبة وأقام فيها متوارياً. م نظم قصيدة طويلة يخاطب فيها ولاّدة ويستنهض الأديب أبا بكر بن مسلم للشفاعة ويستنزل أبا الحزم بن جهور. وفيها يعرفنا أن مدة حبسه بلغت خمس سنوات. قال:
سنون من الأيم خمس قطعتها ... أسيراًن وأن لم يبد شدٌّ ولا ربط
والقصيدة طويلة جميلة جليلة. ثم أنه ما زال بأبي الوليد بن جهور يستشفع به إلى أبيه أبي الحزم، حتى شفع له وانتشله من نكبته وصيره في صنائعه. ولما ولي الأمر بعد والده نوّه به وقدمه في الذين اصطنع لدولته وجلله كرامة لم تقنعه، زعموا.
فلا غرابة إذا بكى واستبكى حينما مات أبو الوليد بن جهور الذي أذاقه من الحبس والعذاب ألواناً. فقد وجد ابن بسام بخط ابن حيان هذه المرثية البديعة لأبن زيدون في أبي الحزم:
ألم تر أن الشمس قد ضمها القبر، ... وإن قد كفانا فقدها القمرَ البدر؟
وأن الحيا إن كان أقلع صوبه ... فقد فاض للآمال في أثره البحر؟
إساءة دهر أحسن الفعل بعدها، ... وذنب زمان جاء يتبعه العذر
فلا يتمنى الكاشحون، فما دجا ... لنا الليل إلا ريثما طلع الفجر
وإن يك ولى جهور؟ فمحمد ... خليفته العدل الرضا وابنه البر
همام جرى يتلو أباه كما جرى ... معاوية يتلو الذي سنه صخر
فقل للحيارى: قد بدا علم الهدى ... وللطالع المعروف قد قضى الأمر
أبا الحزم قد ضاقت عليك من الأسى ... قلوب ومنها الصبر لو ساعد الصبر
دع الدهر يفجع بالذخائر أهله ... فليس لنفس مذ طواك الردى قدر
مساعيك حلى الزمان مرصع ... وذكرك في أيام أردانها عطر
أمامك من حفظ الإله طليعة ... وحولك من آلائه عسكر مجر