ويُفَتُّ المسك في التر ... ب: فيوطاً ويداس
وما ألطف وصفه لنفسه ولوشاته في إحدى قصائده الطنانة:
كأن الوشاة، وقد منيت بأفكهم، ... أسباط يعقوب، وكنت الذيبا
هذه الأحوال مضافة إلى نفس كبيرة تتعب في مرادها الأبدان، شيبت رأس ابن زيدون وجعلته هرماً قبل الأوان. فقد رأى الشيب في رأسه وعاضيه، فبكى على نفسه وقال قصيدة أخرى يستعطف بها ابن جهور أيضاً:
لم تطو برد شبابي كبرة وأرى ... برق المشيب اعتلى في عارض الشَّعَر
قبل الثلاثين إذ عهد الصبا كثب ... وللشبيبة غصن غير مهتصر
وفيها يقول بما يعرفنا بأنه عارف قدر نفسه:
أحين رف على الآفاق من أدبي ... غرس له من جناه يانع الثمر؟
وسيلة سبباً أن لا تكن سبباً ... فهو الوداد صفاء غير ما كدر
فدلنا بذلك على أن الشيب ألمَّ برأسه وبلحيتهن قبل أن يصل إلى الثلاثين من عمره. وذلك مصداق لما ذكرناه من أنه بلغ مراتب العلا وهو في سن الفتوة وريعان الصبا. وذكر الصفدي أنه كان يخضب بالسواد. وأنا لست ممن يرى الخضاب للرجال، فإنما هو في رأي خليق برباب الحجال. لأن الطبيعة لا تغالب ولا تقهر، وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر. ويعجبني بهذه المناسبة قول تلك العجوز المشرقية:
وصبغت ما صبغ الزمان، فلم يفد ... صبغي. ودانت صبغة الأيام
ولا استجيز رواية البيت الثاني لكم. . . فإذا كان منكم من يعرفه فليهمس به لأخيه الذي بجانبهن وليطلب منه أن يلقيه في أذن صاحبه. وهكذا حتى يدور الدور، فأكون كأنني ألقيته عليكم وما ألقيته. ولكن الذي أسألكم العفو في إيراده، أن ابن زيدون كان كأنه نظر إلينا في هذه الليلة وتفرس أن سيكون من بني مصر رجل يعرف فضله، وينشر ذكره، فأشار بما أفاضته الحكمة الربانية على لسانه إلى هذا العاجز الواقف بين أيديكم يناجيكم في ناديكم. فقد قال في ضمن استعطافه لابن جهور بيتاً هو أشبه بالوحي الذي يفيض على ألسنة الشعراء:
سيُعنى بما ضيعت مني حافظٌ ... ويغلي لما أرخصتَ من خطري مغلِ