ولقد زارته أمه في سجنه، فخانتها دمعتها، فقال يخاطبها من قصيدته اللاّمية التي وجهها إلى ابن جهور مستعطفاً:
ألم يأنِ أن يبكي الغمام على مثلي ... ويطلب ثأري البرق منصلت النصل؟
وهلا أقامت أنجم الليل مأتماً ... لتندب في الآفاق ما ضاع من نبلي؟
فلو أصفتني، وهي أشكال همتي، ... لألقت بأيدي الذل لما رأت ذلي!
ولا افترقت سبع الثريا وغاضها ... بمطلعها ما فرق الدهر من شملي
لعمر الليالي، إن يكن طال عمرها، ... لقد قرطست بالنَبل في مقتبل النُبل!
تحلّت بآدابي وإن مآربي ... لسارحة في عُرص أمنية عطل
أخص لفهمي بالقلى؟ وكأنما ... يبيت لذي الفهم الزمان على دخل!
وأجفى على نظمي لكل قلادة ... مفصلة السمطين بالمنطق الفصل؟
ولو أنني اسطيع كي أرضى العدا ... شريت ببعض العلم حظاً من الجهل
أمقتولة الأجفان، مالكِ والهاً؟ ... ألم تُركِ الأيام نجماً هوى قبلي؟
أقلى بكاءً لست أول حرة ... طوت بالأسى كشحاً على مضض الثكل
وفي أم موسى عبرة إذ رمت به ... إلى اليم في التابوت فاعتبري واسلي
ولله فينا علم غب وحسبنا ... به عند جور الدهر من حكم عدل
وإن أردنا أن نتعرف حالته الروحية، وهو في سجنه، فهذه شذرات من قصيدة وجهها إلى أبي الحزم ابن جهور، يعاتبه فيها على عدم الإصغاء إليه. قال يصف نفسه:
جواد إذا استن الجياد إلى مدى ... تمطر، فاستولى على أمد الخصل
ثوى صافنا في مرابط الهون، يشتكي ... بتصهاله ما ناله من أذى الشكل
وأني لتنهاني نهاي عن التي ... أشار بها الواشي، ويعقلني عقلي!
أأنقض فيك المدح من بعد قوة؟ ... فلا أقتدي إلا بناقضة الغزل!
هي النعل زلت بي فهل أنت مكذب ... لقيل الأعادي؟ أنها زلة الحسل!
ألا أن ظني بين فعليك واقف ... وقوف الهوى بين القطيعة والوصل!
وإلا جنيت الأنس من وحشة النوى ... وهول السرى بين المطية والرحل
وأين جواب منك ترضى به العلا، ... إذا سألتني عنك ألسنة الحفل؟