المحاضرة، فاقتصر على هذه الأبيات:
إن الجهاورة الملوك تبوؤا ... شرفاً جرى معه السماك جنيبا
فإذا دعوت وليدهم لعظمة=لباك رقراق السماح أريبا
هم تعاقبها النجوم وقد تلا=في سؤدد منها العيب عقيبا
ومحاسن تندى دقائق ذكرها=فتكاد توهمك المديح نسيبا
فتى أديب حر يصل هذه المكانة قبل أن يصل إلى الثلاثين من العمر، فكيف لا يكون كما قال المتنبي حرب الزمان والدهر. نعم فقد دبت عقارب الغيرة بينه وبين حاسدي نعمته وسعادته، والمناظرين والأنداد فتألبوا عليه وتآمروا حتى انتهوا بإيقاعه في شراكهم، ونجحوا لدى الأمير ابن جهور فحبسه حبساً طالت مدته فكانت تلك السجون مثاراً لشجونه.
فبعد أن صاغ لبني جهور لا سيما لأبي الحزم قلائد وخرائد، كتب إليه من السجن أشعاراً ورسائل مختارة، فاضت بها نفسه في التنصل والاعتذار والاستشفاع والاستعطاف. ولكن المزاحمين له على مركزه في الدولة، وعلى حب ولاّدة، كانوا دائماً يفوزون. فبقي في السجن مدة تنيف على الخمسمائة يوم.
كتب لابن جهور تلك الرسالة البديعة التي طبعها أحد المستشرقين في سنة 1889، وهي التي شرحها العلامة صلاح الدين الصفدي. وعندي في الخزانة الزكية نسخة جليلة من هذا الشرح. وختمها بقصيدة فريدة يقول في تضاعيفها:
أيهذا الوزير، ها أنا أشكو! ... والعصا بدء قرعها للحليم!
ما عناء أن يألف السابق المر ... بط في العتق منه والتطهيم
وثواء الحسام في الجفن يثنى ... منه بعد المضاء والتصميم
أقصير مئين خمسٌ من الأ=يام؟ ناهيك من عذاب أليم!
فلم يفد ذلك شيئاً. ومنظوماته في هذا الباب كثيرة جداً، أذكر منها قيدة قصيرة:
إيهٍ، أبا الحزم اهتبل غرة! =ألسنة الشكر عليها فصاح
لا طار لي حظ إلى غاية ... إن لم أكن منك مريش الجناح!
عتباك بعد العتب أمنية، ... مالى على الدهر سواها اقتراح!
لم يثنني عن أمل ما جرى، ... قد يرقع الخرق وتؤسى الجراح