أدركته حرفة الأدب، وله في العلم باع طويل. وكان يتشبه في خلوته مع ابن زيدون بالقاضي التنوخي مع الوزير المهلى. وهنالك ما شئت من دعابات ورقاعات، وما تخيلت من فكاهات ومجانات. حتى إذا أصبحا ذهب ذو الوزارتين إلى شأنه في ديوانه، وبكر أبو بكر إلى مجلس الحكم بمقتضى الحق. ومتى اقترب المساء عادا إلى القصف، وتجاوزا في ميدانهما كل وصف. إلى أن سطا الدهر، على أبي بكر. واتفق أن مرّ لبن زيدون يوماً بقبر ابن ذكوان في لمة من أخوانه، وجماعة من عمار ميدانه، فعطفوا عليه مسلمين، فقال أبو الوليد ابن زيدون مرتجلاً:
انظر الحال كيف تحال ... ولدولة العلياء كيف تدال
من سر لما عاش قل متاعه ... فالعيش نوم والسرور خيال
ولى ابو بكر فراع له الورى ... هول تقاصر دونه الأهوال
يا قبره العطر الرى لا يبعدن ... حلو من الفتيان فيك حلال
ما أنت إلا الجفن أصبح طيه ... نصل عليه من الشباب صقال
ما أقبح الدنيا خلاف مودع ... غنيت به في حسنها تختال
يا منشئ الأمثال منه أوحد ... ضربت به في السودد الأمثال
نقصت حياتك حين فضلك كامل ... هلا استضاف إلى الكمال كمال
من للقضاء يعز في أثنائه ... إيضاح مظلمة لها أشكال
من لليتيم تتابعت أرزاؤه ... هلك الأب الحافي وضلع المال
زرناك لم تأذن كأنك غافل ... ما كان منك بواجب إغفال
أين الحفاوة روضها غض الجنى ... أين الطلافة ماؤها سلسال
هيهات لا عهد كعهدك عائد ... إذ أنت في وجه الزمان جمال
فاذهب ذهاب البدء أعقبه الغنى ... وإلا من وافت بعده الأوجال
حيّ الحيا مثواك وامتدت على ... ضاحي ثراك من النعيم ظلال
وإذا النسيم اعتل فاعتلت به ... ساحاتك الغدوات والآصال
ولئن إذا لك بعد طول صيانة ... قدر فكل مصونة ستذال
ولقد أفاض في مدح ابن جهور وأهل بيته بأمداح تزري بالقلائد ولا تحتملها هذه