الجارية تقول الشعر فجاشت نفسها ببيت فذ وامتنع عليها ما تريد وهذا لبيت هو:

يا معطشي عن وصل كنت وارده ... هل منك لي غلة إن صحت واعطشي

فجاءت إلى كبير الوزراء، وأمير الشعراء، وسألته أن يزيد عليه شيئاً وهي تظن أنه لا يعلم بما هي فيه من الغرام، فأمسك القرطاس، واغتنم فرصة الروىّ، وما يعلمه من السر المطوى. فكتب:

كسوتني من ثياب السقم أسبغها ... ظلماً وصيرت من لحف الضنى فرشي

أني بصرف الهوى عن مقلة كحلت ... بالسحر منك وخد بالجمال وشى

لما بدى الصدغ مسوداً بأحمره ... أرى التشاكل بين الروم والحبش

أوفى إلى الخد ثم أنصاع منعطفاً ... كالعقربان انثنى من خوف محترش

لو شئت زرت وسلك الليل منتظم ... والأفق يختال في ثوب من الغبش

جفا إذا التذت الأجفان طيف كرى ... جفنى المنام وصاح الليل يا قرشي

ومن تأمل أحوال الأندلسيين رأى أنهم كانوا يبالغون في التشبه بالشرقيين في كل ما اشتهروا به أو اشتهر من أحوالهم. فمدائنهم وعمائرهم وقصورهم ومنازلهم سموها بما اختاره الشرقيون في بلادهم. كذلك حاكوهم في مجالس أنسهم. وأنا اقتصر على ما يتعلق بابن زيدون وصحبه، وأمهد لذلك بما كان في بغداد.

كان في دار السام الوزير المهلى المشهور، والقاضي التنوخي، وقد بلغا من الكبر سناً عالياً، ولهما ذقون بيضاء تنهال على صدروهما، وكانا يتعاطيان في النهار أمور الدولة بغاية الحشمة والوقار. حتى إذا جن الليل اجتمعا في مجلس العقار، وخلعا العذار، فكانا يشربان في أواني من البلور والنضار، ولا يكتفيان بلذة الشراب، بل يغمسان أذقانهما في الأواني، ثم يرش كل منهما الشراب بتلك الرشاشات الغريبة على صاحبه لتتم لهما لذة السكر حساً ومعنى، باطناً وظاهراً. ويستمران على ذلك طرفاً من الليل. حتى إذا جاء الصباح عادا إلى أشغالهما: الوزير في تدبير الدولة، وقاضي القضاة في النظر في الخصومات والحكم على مقتضى الشرع. واستمرا على هذه الحال في معاقرة المدام، حتى وافاهما الحمام.

فاسمعوا نظير ذلك في قرطبة كان القاضي ابو بكر بن ذكوان من الجلالة بأسمى مكان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015