ثم نفرت كالظبي الشارد وتركته حائراً بائراً، باهتاً صامتاً. لا يحير جواباً، ولا يعي خطأ ولا صواباً. وهذا البيت لأبي نواس تمثلت به ولاّدة ونقلته هذا النقل الحسن من المدح إلى الهجاء.

غير أن هذا الوزير صبر حتى خلا جو قرطبة من ابن زيدون على ما سيأتي. فاستأثر بولاّدة وعاش وعاشت حتى بلغا الثمانين وهما يتراسلان ويرتعان في بساتين الأدب، ورياض العفاف.

لم يبلغ ابن زيدون الخامسة والعشرين من عمره حتى نَبُه ذكره، وعم صيته. اصطنعه أبو الحزم ابن جهور المتغلب على قرطبة ونواحيها وضواحيها ونوه به لأنه رآه فتى الآداب، وعمدة الظرف، والشاعر البديع الوصف. ولما له بقرطبة من الأبوة السنية، والوسامة والدراية، وحلاوة المنظوم والسلاطة، وقوة العارضة، والافتنان في المعرفة. فكانت الكتب تنفذ من إنشائه إلى شرق الأندلس فيقال تأتي اشبيلية كتب هي بالنظم الخطير أشبه منها بالمنثور. ثم ترقى في وظائف الدولة القرطبية حتى صار إليه النظر على أهل الذمة، ثم رآه ابن جهور أهلاً للوزارة فرقاه إليها، بل جعله ذا الوزارتين. فكان منه بمنزلة السمير والوزير، والمشير والسفير. فكم أنفذه إلى ملوك الطوائف لأمور سياسية، ولمخابرات تقتضيها المعاملات والمجاملات التي يوجهها الجوار، أو تدعو إليها علاقاته معهم أو مع ملوك الاسبانيين الذين كانوا يتربصون به وبهم دوائر السوء. فأحسن ابن زيدون التصرف في ذلك، وغلب على قلوب الملوك. حتى كان كل ملك يخطب وده، ويتمنى أن يقيم عنده. ولكنه كان بعد انقضاء مهمته يرجع إلى صاحبه بقرطبة وإلى مجالس أنسه بها، ولهوه بأهلها.

في ذلك الوقت المضطرب بالفتن الداخلية، والخطوب الخارجية كانت الجاسوسية لها أثر في مصالح الدولة، وفي أحوال الأفراد.

نترك أمور الدولة وسياستها جانباً ونقتصر على الدائرة التي ارتضينا لأنفسنا الجولان فيها وهي ميدان الأدب، ونذكر حكاية تدل على الجاسوسية الفردية في تلك الأيام.

كانت قرطبة جارية تتعشق فتى من القرشيين، وكانت لوجدها كاتمة. لكن الخبر وصل إلى الوزير ابن زيدون فلم يعبأ به لأن القوم كلهم كانوا متغلغلين في هذه السبيل. وكانت

طور بواسطة نورين ميديا © 2015