جميعها في المنطقة الحارة. وكانت الأجور فيها زهيدة جداً ولذلك كانت طبقات العمال في ضنك وفاقة. وفي أوربا كان أول ما ظهرت المدنية في جو أبرد. فلذلك ارتفعت الأجور وقل الفرق العظيم بين نصيب الطبقة العليا من الثروة ونصيب طبقة العمال - وهي مزية لا تدرك في البلاد الحارة حيث وفرة الغذاء مدعاة إلى زيادة السكان. وهذا الفرق_فرق ما بين توزيع الثروة في المدنيات القديمة وتوزيعها في المدنية الحديثة الأوربية قد أحدث كما سنرى عدة نتائج اجتماعية وسياسية عظيمة الأهمية. ولكن قبل التكلم عن هذه النتائج أقول أن في المدنية الأوربية مسألة يحسبها من لا يحقق شذوذاً عن القاعدة حتى إذا أنعم النظر وجدها معززاً للقاعدة ومؤيداً للحجة. إن في أوربا أمة واحدة تملك غذاء مفرط الرخص. وهذه أمة الأيرلنديين وذلك أنه في أوائل القرن السابع عشر أدخلت في أيرلندة زراعة البطاطس وقد مضى على الأيرلنديين أكثر من مائتي عام وأهم أغذيتهم هذا المأكول وخاصته أنه أرخص من كل ما يماثله من الأطعمة جودة وطيباً. فملء فدان منه يكفي من الأكلة ضعف ما يكفي ملء فدان من الحنطة. نتيجة ذلك أنه إذا تساوت سائر الأحوال في بلدين فزيادة السكان في البلد الذي غذاء أهله البطاطس تكون ضعفها في ذلك الذي غذاء أهله الحنطة وهذا هو الواقع فإن عدد السكان في ايرلندة كانت زيادته قبل حدوث الوباء بها والهجرة ثلاثة في المائة كل عام بينما كانت الزيادة في انكلترا واحداً ونصفاً في المائة فنتج من ذلك اختلاف كبير بين البلدين في توزيع الثروة فإنه رغماً من أن زيادة السكان في انكلترا كانت على كل حال أكثر من اللازم وأن الأجور لذلك كانت منحطة لا توازي أتعاب العامل فلقد كان حال العمال في انكلترا أنعم حالاً بالنسبة للحال في أيرلندة. ولسنا ننكر أن مما زاد حال العامل الايرلندي شراً جهل الولاة وتلك الحكومة الفاسدة التي كانت أسود صحيفة في تاريخ انكلترا وأقبح وصمة في رونق مجدها. ولكن أفعل الأسباب كان ولا شك انحطاط الأجور الذي حرمهم مناعم العيش بل كثيراً من ضرورياته. وتلك آفة لم يكن لها سبب سوى رخص الغذاء الذي أسرع في نمو السكان حتى زاد عدد العمال عن الحاجة. ولقد قال أحد الأذكياء وكان قد ساح في ايرلندة منذ عشرين عاماً لقد هبطت الأجور حتى صار متوسطها أربعة بنسات في اليوم (ثلاثة قروش تعريفة) وأشد نكبة من ذلك أن هذا القدر الخسيس لا يضمن استمراره.