العذاب والتنكيل ما جعل بطن الأرض أحب إليه من ظهرها، وذلك أنه حبسه وعزله عن جميع أعماله وأمر بتقصي حسابه فأغرمه غرماً عظيماً كشفه فيه حتى اضطر إلى أن سأل العرب معونته فيقال أن لخماً حملت عنه في أعطيتها تسعين ألفاً ذهباً وهم سليمان بقتله فاستجار بيزيد بن المهلب لمكانه من سليمان وطلب منه أن يكلمه في أن يخفف عنه فاستوهبه من سليمان فوهبه إياه.
وما أحكم الحديث الذي دار بينه وبين يزيد حين لجأ إليه، قال له يزيد: أريد أن أسألك فأصغ إلي، ثم قال لم أزل أسمع عنك أنك من أعقل الناس وأعرفهم بمكايد الحروب ومداراة الدنيا فقل لي كيف حصلت في يد هذا الرجل بعد ما ملكت الأندلس وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزخار وتيقنت بعد المرام واستصعابه، واستخلصت بلاداً أنت اخترعتها، واستملكت رجالاً لا يعرفون غير خيرك وشرك، وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعاقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع ما ألقيت عنقك في يد من لا يرحمك ثم أنك علمت أن سليمان ولي عهد وأنه المولى بعد أخيه وقد أشرف على الهلاك لا محالة وبعد ذلك خالفته وألقيت بيدك إلى التهلكة وأحقدت مالكك ومملوكك (يعني سليمان وطارقاً) وما رضي هذا الرجل عنك إلا بعيد ولكن لا آلو جهداً - فقال موسى ليس هذا وقت تعديد، أما سمعت إذا جاء الحين غطي على العين، فقال يزيد ما قصدت بما قلت لك تعديداً ولا تبكيتاً وإنما قصدت تلقيح العقل وتنبيه الرأي وأن أري ما عندك فقال موسى أما رأيت الهدهد يرى الماء تحت الأرض عن بعد ويقع في الفخ وهو بمرأى عينه.
ثم كلم فيه سليمان فوهب له دمه ولكن لم يرفع العذاب حتى يرد ما غل - زعم سليمان - من مال الله. وآلت حاله إلى أن كان يطاف به ليسأل من أحياء العرب ما يفتك به نفسه وفي تلك الحال مات - حدث أحد غلمانه ممن له في أيام محنته فقال: لقد رأيتنا نطوف مع الأمير موسى بن نصير على أحياء العرب فواحد يجيبنا وآخر يحتجب عنا ولربما دفع إلينا رحمة بنا الدرهم والدرهمين فيفرح بذلك الأمير ليدفعه إلى الموكلين به فيخففون عنه من العذاب، ولقد رأيتنا أيام الفتوح العظام بالأندلس نأخذ السلوب من قصور الإفرنج فنفصل منها ما يكون فيها من الذهب وغير ذلك ونرمي به ولا نأخذ إلا الدر الفاخر. فسبحان الذي بيده العز والذل والغنى والفقر أي وربك أيها الغلام، إذ الأمر كما قيل: