ثم عدت إلى منزلي على مهل وأنا لا أحس ولا أشعر ولا أعقل ولا أفكر كمن قد ذهب فلبه وطاح لبه. ثم أني نزعت ثيابي ومضيت إلى مضجعي ولكني لم أكد أضع رأسي على الوسادة حتى تملكني حب الانتقام والأخذ بالثأر وجاش بقلبي جيشة حفزتني من فراشي حفزاً، فلم أشعر إلا وأنا قائم على الجدار منتصباً كأني الرمح أو الجذع وقد خنقني البكاء ثم انطلقت عيني بوابل من الدمع هطال، وذراعاي ممدودتان وقد ارتفع مشطا قدمي عن الأرض لتشنج أعصابي فلم أطأ أديمها إل بعقبي. ومضت عليّ ساعة وأنا على هذه الحال من الجنون التام يابس المفاصل جامد الأوصال كالهيكل العظمي. وهذه كانت أول ما أصابني نم الثورات الغضبية والنوبات العصبية.
كان الرجل الذي فاجأته يغمز حبيبتي ويجمشها أحد أصدقائي المقربين. فجئته في الغد يصحبني رفيق لي من فئة المحامين اسمه ديزينيه ثم أخذنا مسدسين ومضينا إلى غابة فينسين وجعلت أثناء الطريق أتحاشى النظر إلى خصمي والدنو منه فمنعت نفسي بذلك من الاعتداء عليه بالنسب أو الضرب. ومثل هذا الاعتداء يعد شيئاً وعبثاً ما دام القانون يجيز المبارزة القائمة على أساس منظم غير أني لم أملك مع ذلك أن صوبت إليه طرفي خلسةً وكان رفيق صباي منذ الطفولة وقد قضينا معاً حقبة من الدهر كأحسن ما يكون صديقان ونحن من الألفة بحال هي المصافاة بين الماء والراح. وامتزاج الأبدان بالأرواح. وكان عليماً بحبي لعشيقتي وفد أفهمني مراراً أن مثل هذه الروابط الغرامية مقدسة في مذهبه وأن يؤثر الانتحار على أن يكون لعهدي غادراً - ويفضل أن يحثى فوقه تراب القبر على أن يحاول خلعي من منزلتي في فؤاد حبيبتي ليحتلها بدلي ويقوم فيها مقامي فوثقت به الثقة العمياء ولعلي لم أخلص لإنسان قط إخلاصي له ولم أختص رفيقاً ولا خلا بمثل مكانته في صدري.
فجعلت أنظر نظرة المندهش المستغرب إلى ذلك الرجل الذي ما برح يصف لي فرائض الصدقة وواجبات الإخاء كما كان يصفها أبطال الأزمان الغابرة ثم قد أبصرته بعد ذلك يداعب حبيبتي - نظرت إليه بعين شاخصة ذالهة. ونفس من لوعة الجوى متساقطة ذابلة. نظرت إليه أتأمل كيف صاغه الله وكيف صوره وركبه، ومن أي جوهر صنعه ومن أي طينة عجنه، وهل هو من معشر الأنس منذ الطفولة، وعاشرته عشرة الأصفياء الأولياء.