إليها وفي أثناء ذلك التفت أتناول صفحة من يد الخادم فسقطت شوكتي فانحنيت التقطها. ولما لم أجدها رفعت ذيل غطاء المائدة لأبحث عنها. فأبصرت تحت الخوان قدم حبيبتي مستقراً على قدم شاب كان جالساً إلى جانبها وقد التفت الساق بالساق وهما من آن لي آخر يتغامزان بالأكف ويتضاغطان بالأرجل والأقدام ثم استويت جالساً وطلبت شوكة أهرى واسترسلت في الأكل والشرب على غاية نم السكون والطمأنينة. وكذلك كان شأن حبيبتي وجارها - ساكتين صامتين لا يتنابسان شفة ولا يتبادلان النظرات ولا اللمحات - لا علناً ولا اختلاساً. وكان جارها قد ارتفق على المائدة وأقبل على امرأة أخرى حياله يمازحها ويداعبها وهي ترية أسوارها ودمالجها، وكانت حبيبتي ساكتة الأوصال لا تبدي حراكاً، ترنو بلحظ فاتر وطرف مريض. وجعلت أراقبها أثناء الطعام فلم يبدر من أيهما أدنى ما يدعو إلى ريبة أو تهمة. لما وضع الآخر الألوان أسقطت فوطتي عمداً ثم انحنيت لآخذها فألفيتهما على مثل حالتهما الأولى لم يتحولا عنها مثقال ذرة.

وقد كنت واعدت حبيبتي على أن أرافقها إلى دارها بعد الوليمة. فأقضي معها هزيعاً من الليل. وكانت أرملة، فكان لا قيد عليها ولا بأس أن تستقبل الضيوف في دارها ولا سيما إذا كان لها قريبة عجوز كانت لا تزال ترافقها وتنزل منها منزلة الحارسة والرقيبة. فلما رفع الخوان ونهضت للانصراف نادتني قائلة أوكتاف! أوكتاف! هلم إليّ! أما آن أن نذهب إلى الدار؟ أني متأهبة للذهاب فلم التفت إليها ولكني أخذت في الضحك ثم غادرت إلى حجر في الطريق فقعدت عليه ولم أدر فيما كنت أفكر وبماذا اشتغل بالي إذ ذاك وماذا جال بخاطري. فلقد كنت يعلم الله قد راعني وهالني ما شهدت نم خيانة حبيبتي، وبهرني وغمرني ما رأيت من غدرها حتى رحت كما قال القائل:

ترى الجلد مغموراً يميد مرنحا ... كان به سكراً وإن كان صاحياً

وكان الذي أبصرته بعيني رأسي من عملها الآنف الذكر لم يدع للشك أدنى مجال عندي. فأحسست كأنما شج رأسي بصخرة أو سقط عليّ حائط. فلست أدري ماذا كان يمر بخاطري ساعة كنت جالساً على ذلك الحجر سوى أني كنت أرفع طرفي بلا تفكير نحو السماء حيث أبصرت شهاباً ينقض، فنزعت قبعتي أحيي ذلك البارق المارق الذي يبصر فيه الشعراء آية على خراب عالم من العوالم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015