فمثل هذه الحقيقة الرمزية لا يزال في كل زمان ومكان خير بدل وأحسن عوض لعامة الناس من حقيقة لا يستطاع الوصول إليها أبد الدهر ومن فلسفة لا يتأتى لها فهمها - فضلاً أنها مستمرة التغير والتبدل تتلون كل برهة لوناً وتتشكل كل يوم شكلاً. فلا جدال يا صديقي في أن المقاصد العملية مفضلة من كل الوجوه على المقاصد النظرية.
الفيلسوف: كأني بك تقول لي أنه يجب إرضاء الجماعات والجماهير حتى نكفى شر حملاتهم وهجماتهم ونأمن انحطاط سيل غضبهم علينا ونحن جلوس على مائدتنا نأكل ونشرب هنيئاً. ولكن هذا الرأي باطل بمقدار ما هو مستحسن محمود. ومن ثم إسراعي إلى تفنيده. أجل من الزور والباطل أن تظل الحكومة والعدالة والقانون ولا قوام لها ولا حول ولا قوة إلا بمعونة الدين وتعاليمه وأن المحاكم والبوليس لا تستطيع تنفيذ قوانينها إلا بتداخل الدين. أولم تر القدماء ولاسيما اليونان كيف كانوا يديرون أمورهم أحسن إدارة، ويدبرون شؤونهم أحكم تدبير بدون الاضطرار إلى اتباع هذه الخطة العقيمة. وأولئك اليونان لم يكن عندهم أدنى شيء مما نسميه نحن الدين. فلم يكن لديهم كتب مقدسة ولا تعاليم محتم حفظها ودرسها ونقشها على صحائف القلوب في الصغر.
وكان خدام الدين وسدنته في تلك الأمة لا يلقون الخطب الدينية والمقالات الوعظية ولا يبدون أدنى اهتمام بمسائل الأخلاق والآداب والواجبات والمعاملات أعني بما يأتيه الناس وما يتركونه. أجل لم يعن قساوسة اليونان ولم يحفلوا بأي شيء من هذا القيل. ولكن واجباتهم كانت محصورة في شعائر المعبد ومناسك الهيكل والصلوات والأناشيد والضحايا والمواكب والتطهيرات وما شالك ذلك مما لا علاقة له البتة ولا مساس بإصلاح الفرد وتهذيب أخلاقه. ولم يكن شهود هذه الحفلات محتماً على غير الكهنة القائمين بشعائرها ولم يطالب أحد قط من غير هؤلاء الكهنة بالتصديق بها والاعتقاد بصحتها. ولم يؤثر عن العصور القديمة والدول العتيقة بأسرها ما يدل على أنه كان فيها أدنى إرغام للأفراد أو للجماعات على الاعتقاد بأي مذهب أو ملة.
وكل ما هنالك هو أن العقوبة كان تقصر على من يجاهر بإنكار وجود الآلهة أو الطعن عليها. إذ كان صنيعه هذا يعد بمثابة إهانة وتحقير للحكومة التي تخدم الآلهة المذكورة. ولكل امرئ بعد هذا أن يرى في تلك الآلهة رأيه الخاص.