تمضي أشهر ثلاثة حتى وددت لو أنني انفصلت منها وعدت إلى سيرتي الأولى عاملاً بسيطاً خشناً فقيراً يصيب رزقه يوماً فيوماً.
ولم يلبث أن تحقق ما كنت أتمنى، وتم هذا الانفصال الذي وددت، وغليك الحادثة التي ساقت إلي ذلك: في مأدبة من المآدب التي أقمناها في القصر، كان بين المدعوين سيدة شابة في ربيع العمر تسمى سيسليا، وقد أصابت حظاً وافراً من الجمال في أبدع ملامح، وأوسم وجه رأيته في حياتي، وكانت رقيقة الحاشية، عذبة المحضر، تأسر الفؤاد رقتها، ويسحر الألباب خلقها، طاهرة من تلك الغطرسة وذلك الكبر، وتلك الخيلاء التي كانت تغضبني من غيرها من أصحابنا الشرفاء، فإذا أنا قلت كلمة تافهة، أو خرجت يوماً عن الآداب النبيلة، أو أحدثت أمراً أداً في نظر هؤلاء النبلاء الغطاريف، فلا تظهر أمامي شيء من السخرية أو التضاحك احتقاراً لي، واستخفافاً بأمري، بل تهمس في أذني ما كان ينبغي أن أفعل وتعلمين كيف السبيل إلى اجتناب الشذوذ عن آداب السادة.
فلما انتثر عقد الجميع، وانتهت المأدبة، وغادرت تلك السيدة القصر قلت لزوجتي على سبيل الملاحظة: يا لله ما أرق الآنسة سيسليا وما أعذبها محضراً والينها عريكة. فأجابت زوجتي وقد احمر وجهها وتصاعد الدم إلى محياها: نعم كل امرأة تستطيع أن تعجبك إلا أنا، ولا تحسبن أنك مخادعي أو مراوغي، فقد رأيتك تضحك وتتحدث إليها طول الوقت، أيها المخلوق الوضيع الزري المنبت الذي رفعته من وهدة الخمول إلى منصة المجد والجلال، ثم لم يغرك هذا بأن تحمل لي شيئاً من التقدير الجميل والمعرفة بالصنيع، ولكني سأنتقم منك وأصيل الثأر.
قالت ذلك وغادرتني أفكر فيما عسى أن يكون هذا الثأر فلما أمسى المساء وأويت إلى المضجع، لم يغمض لي جفن، ولم يأخذ النوم لي عيناً، ولم ألبث أن سمعت فجأة وقع أقدام خارج باب الحجرة، فتولاني الرعب وتملكتني الدهشة، فنهضت وفتحت الباب بكل هدوء. وناهيك عن الدهشة الكبرى التي ثارت بفؤادي إذا أبصرت شبح زوجتي وهي تنسل في خفية وخفوت أمامي والمشعل في يدها، فتعجبت وزادت حيرتي ولم أعلم السبب الذي بعثها أن تمشي في حجرات القصر في جنح الليل، فتبعتها في رفق، وأنا أحاذر وأجتهد أن تقع مواقع قدمي منسجمة مع مواقع قدميها.