الطباعة نسخت أمر الجامعات وعلوتها علواً مبيناً. إذ لا يصبح المعلم في حاجة إلى أن يجمع الطلاب حوله ليسمعوا منه وما هو إلا أن تطبع الكتاب حتى يتناوله من بأقاصي الأرض غنيمة بلا عناء ويرتشفه شربة بلا رشاء - هنيئاً مريئاً وهو متكيء على أريكته مرتفق فوق وسادته ليقلب فيه البصر. وينعم في معاينه النظر! ولا شك أن في الخطبة لمزيد خاصة. حتى لقد يحسن أحياناً بكتاب الكتب أن يخطبوا طلابهم أيضاً. وحسبكم ما نحن فيه الآن! وأرى أنه ما دام للمرء لسان فسيبقى للخطابة فضل لا ينكر وقيمة لا تحقر ومنطقة للكلام خلاف منطقة الأقلام. ولكن الحد الفاصل بين المنطقتين لم يعين حتى اللحظة ولم توجد بعد تلك الجامعة التي يفرض معها نفوذ قوة الكتب وتأثير سلطانها. ولا عرف بعد كيف تكون تلك الجامعة وما معالمها وحدودها. فإذا كنا مفكرين في ذلك فمثل هذه الجامعة لن تكون إلا كأقدم جامعة أعني أن يكون من شأنها تعليم القراءة - القراءة في مختلف اللغات والعلوم - أي تعليم مبادئ كل صنف من أصناف الكتب. ولكن مأخذ العلوم ومقتبسها هو الكتب أعينها! ومبلغنا في العلم متوقف بعد على ما نقرأ بأنفسنا مهما صنع لنا المعلمون وأجاد المدرسون نخرج من ذلك على أن خير جامعة في هذه الأوقات هي مجموعة كتب.
وأما من جهة الكنيسة فالتغيير الحادث عليها من نشر الكتب تغيير تام. والكنيسة هي جماعة القسوس والأنبياء ذوي الهداية والإرشاد من يهدون بعظاتهم عباد الله الصراط المستقيم. وقد كان اللسان يوم لا كتابة ولا طباعة هو الأداة الوحيدة لبث النور والهدى. فأما وقد ذاعت الكتب فقد أصبح كل كاتب يلين من قلوب الناس ويأخذ بزمامها نحو الحق فذلك بطريق أمته وأمامها. وطالما قلت أن كتاب الجرائد والمجلات والرسائل والشعر والكتب هم في الحقيقة الكنيسة العاملة الفعالة في الأمم الحاضرة. وليست الكتب خطباً لنا فقط بل هي أيضاً ضرب من ضروب العبادة وبعضها تكون قراءته أحسن صلاة لله وتسبيح. أوليس المعنى الشريف يزفه إليك البليغ في رونق اللفظ المصقول يختال من صفاء السبك وإشراق الديباجة في أكرم حلة وأبهج خلعة فيمتزح بأجزاء النفس ويجري مع الروح حتى:
يظل سامعه لدناً مفاصله ... كأنما فترت أوصاله الكاس
يفعل بالنفس ما تفعله العبادة ولعل الكثيرين لا يعرفون في هذه الأوقات الفاسدة من أساليب