كل الاختلاف. فهذه عادات العرب في الحرب كانت مستمكنة من نفوسهم. متأصلة في أعراقهم. حتى لقد كانت جزيرة العرب قبل النبي ساحة حرب ما يبرد هنا وطيس. ولا ينفض قتال. فلما انضووا تحت دين واحد. وخضعوا لسلطان عقيدة عامة. إذا بهم قد صاروا ألباً واحداً على الأعجمي. فكانت عاداتهم الحربية سبباً من أعظم أسباب انتصاراتهم: حتى إذا دانت لهم الأعداء. وخضعت الرقاب. ولم يبق منهم من يساجلونه الحرب والقتال. عادوا إلى مطاوعة خلقهم الحربي ومتابعته. فشهروا رماحهم في وجوههم، وامتشقوا أسلحتهم على أنفسهم. فكانت طبائعهم التي ضمنت عظمتهم ومجدهم، هي نفسها التي أفضت إلى سقوطهم وتدهورهم.

ولا يفي من قولنا أن خلق الأمة قد يحدث تبعاً للظروف نتائج مختلفة جد الاختلاف، إن الظروف وحدها لا ينهض فوقها تطور الأمة بل إن من الظروف عوامل أخرى لها أثر مشهور في هذا التطور.

وفي طليعة هذه العوامل التي بقي علينا الآن بحثها، ذلك العامل الذي ألف بين شعوب العرب وقبائلهم وبطونهم، ودمجهم في أمة واحدة، وكانوا من قبل منقسمين متباعدين، وذلكم العامل هو الدين الذي جاب محمد، فقد أتى هذا الدين بالمثل الأعلى إلى قوم كانوا من قبل خلواً منه صفراً.

أجل. جاء هذا الدين بمثل أعلى يثير في قلوب عصبة المستمسكين به حمية تدفع بهم أجمعين إلى تضحية نفوسهم في سبيله.

ولقد سبق لي أن أعدت القول وكررت أن دين المثل الأعلى من أقوى العوامل على تطور الجماعات الإنسانية، وحسبك من قوته أن ينشئ للأمة عواطف عامة، وأماني مشتركة، وإيماناً حياً، فلقد كان المثل الأعلى في أمة الرومان عظمة روما. وكان عند المسيحيين الأمل في حياة أخرى حافلة بالمناعم والمباهج، وقد صور الإنسان العصري آلة له جديدة، على غرار الآلهة القديمة في عدم عصمتها، وإن كان يقيم لها التماثيل بحق. ويرفع لجلالها الدمى، وإن لهذه الآلهة لتاثيراً صالحاً. يكفيك منه أنه قد يوقف الجماعات الهرمة والشعوب المتدهورة عن الانحطاط والفناء حيناً من الدهر.

وما التاريخ إلا رواية الأحداث والأفعال التي قام بها الناس سعياً وراء المثل الأعلى. ولولا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015