المحاسن والمساوئ التي تنسب إليها عظمة أمة من الأمم في عصر من العصور ليصح أن تصبح منشأ سقوطها في عصر آخر. وفي حال العرب مثال لذلك، وإذا حللنا اختلاف النتائج تحليلاً وافياً دقيقاً، لكشف لنا هذا التحليل أن الأسباب واحدة، فقد يبدو لنا من أول وهلة أن بين اليوناني في عهد بريكلين. وبين البيزانطي في أخريات دولة الرومان هوة سحيقة. وبوناً شاسعاً، وذلك هو الواقع لو نظرنا إليهما من الوجهة الاجتماعية. على حين أن أساس الخلق فيهما لم يتحول ولم يتبدل. وإنما هي الظروف وحدها التي عدا عليها التحول والتبدل. فلما انتقلت نعومة اليوناني ورقته ودهاؤه الفلسفي وعذوبة لغته. إلى بيئة غير بيئته. ووسط غير وسطه وزمان غير زمانه. إذا هي قد راحت في البيزانطي غدراً خلاباً. ودهاء دينياً. وثرثرة حمقاء. وإن التفتيشي في القرون الوسطى. في طبائعه الجامدة الصلبة: واليعقوبي الحديث. في الحادة الوحشي. وطبائعه الثورية الهائجة. ليكادان يكونان جد مختلفين. على أننا لو أنعمنا النظر لحظة واحدة. لبدا لنا أن الثاني ليمت إلى الأول بلحمة القرابة والشبه. ولم يتغير فيهما إلا اسم العقيدة.
ويرتبط بهذه العناصر الأساسية لخلق الأمة. وهي في رسوخها وثبوتها كالفقار في الحيوانات الفقارية. طائفة من العناصر الثانوية. وهي في تباينها كالقامات والهيئات والألوان في تلك الحيوانات: على أنا لنصيب إذا قلنا أن الآراء والأذواق هي التي تتغير وتتحول. ولكن تغيرها لا يمس العناصر الأساسية لخلق الأمة. فإن هذه أشبه بالصخرة الصماء. تتقاذف فوقها الأمواج،. وتعتلج أبداً عليها اللجج. دون أن تزعزعها عن مكانها المسكين. وما أشبه الآراء والأذواق بأطباق الرمال. ومهيل لسباسب. وركام الخرزات. ومنثور الأعشاب. التي ترمي بها الأمواج فوق هذه الصخرة. لتنهض عليها وترتفع:
ومن ثم كان المرجع في الموازنة بين الشعوب هو البحث في العناصر الأساسية لخلقها الأهل. وقد وفينا هذه العناصر في خلق العرب حقها من الوصف فلا حاجة بنا الآن إلى ذكرها. بل نترك الآن ما قلناه عن قوة أذهانهم. . وحمية نفوسهم. وأميالهم الأدبية والفنية. مما لا تقوم المدينة بسواه. ولا تسموا الحضارة بدونه. ونقتصر هنا على ذكر ما يخص عاداتهم القديمة في الحرب. فإن في هذه العادات مثالاً بيناً على ما ذكرناه من قبل. وهو أن الاستعدادات والأميال المتشابهة قد تؤدي تبعاً للظروف إلى نتائج مختلفة بعضها عن بعض