محمد محمد بدري
ظهر مصداق قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بدأ الإسلام غريباً
وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) رواه مسلم، وأصبح واقع الأمة الإسلامية
يقرر أن غربة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأسرة ياسر، وبلال وغيرهم، قد
عادت للذين يقولون: ربنا الله، لا قيصر، والحاكمية لله، لا للبشر، ... وغابت
راية الإسلام عن أرض الإسلام وحكمتها نظم علمانية لا دينية، حتى أصبحت
الدعوة إلى أن يكون الإسلام بكتابه الكريم، وسنة رسوله الأمين - صلى الله عليه
وسلم - أساس الحكم، جريمة في أكثر دول العالم (الإسلامي) تحاكم عليها قوانين
تلك البلاد بالإعدام بتهمة تغيير شكل النظام؟ ! .
ولقد كان مما ساعد على استقرار تلك الأوضاع غياب الكثير من حقائق
الإسلام وبديهياته، ومن أظهرها أن وجوب الحكم بما أنزل الله عقيدة لا يكون
المسلم مسلماً إذا تخلى عنها، وأن التشريع بغير ما أنزل الله، والرضى بشرع غير
شرع الله هو شرك مخرج من الملة.
ولما كان بيان الحق وإبلاغه للخلق أمانة في عنق كل من علم شيئاً من حقيقة
هذا الدين، فقد كتبت هذه المقالة:
بياناً لحقيقة العلمانية، بكشف المخبوء من حقيقتها، وتعرية المستتر من
أسرارها، وإضاءة المناطق المعتمة في حركة العلمانيين ودعوة للنجاة في الدنيا
والآخرة، بقبول شرع الله، ونبذ كل شريعة يقوم عليها علمانيون يقفون في طريق
الإسلام والتوحيد الخالص، وكأنهم أرباب زائفون. وليكون ذلك ميلاداً جديداً للفرد
المسلم والأمة المسلمة، الأمة التي تحمل رسالتها إلى كل البشرية بالنجاة من
الشرك ... تلك الرسالة التي عبر عنها في بساطة ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس، هذا يسأله ما الذي جاء بكم؟ فيجيب للتو واللحظة: ... الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
أولاً: العلمانية ... وحكم الجاهلية:
حاول اعداء الإسلام القضاء على الإسلام عن طريق نشر الإلحاد ...
وفشلوا.. وحاولوا صرف الناس عن الإسلام عن طريق الشيوعية.. وفشلوا.. وأحس الأعداء اليأس من هذا الدين.. ولكنهم، بعد التفكر والتدبير، لجأوا إلى طريقة أخبث (لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع تتزيا بزي الإسلام، وتتمسح في العقيدة، ولا تنكر الدين جملة، بل تعلن إيمانها به إيماناً نظرياً واحترامها له كعقيدة في الحنايا، وشعائر تؤدى في المساجد،.. أما ما وراء ذلك من شؤون الحياة فمرده - بزعمهم - إلى إرادة الأمة الحرة الطليقة التي لا تقبل سلطاناً عليها من أحد! ! !
ولما كانت حقيقة العلمانية قد تخفى على كثير من المسلمين، فإنه من واجبنا
أن نفضح هذه العلمانية عبر نظرة نلقيها عليها لنتبين من خلالها ما هي العلمانية؟
وكيف نشأت؟ لمن حق التشريع المطلق في نظمها؟ وما هي الشريعة التي تحمل
الأمة على التحاكم إليها؟
1- العلمانية.. التعريف والنشأة:
لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة secularism في الإنجليزية، أو
secularite بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ العلم ومشتقاته على
الإطلاق ... والترجمة الصحيحة للكلمة هي اللادينية أو الدنيوية، لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب بل بمعنى أخص هو ما لا صلة له بالدين، أو ما كانت صلته بالدين علاقة تضاد..
وفي دائرة المعارف البريطانية مادة secularism: هي حركة اجتماعية
تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا
وحدها [1] . ولذلك فإن المدلول الصحيح لكلمة (العلمانية) هو: فصل الدين عن
الدولة أو هو: إقامة الحياة على غير الدين، سواء بالنسبة للأمة أو الفرد، ثم
تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود، فبعضها
تسمح به، ... وتسمى العلمانية المعتدلة، فهي - بزعمهم - لا دينية ولكنها غير
معادية للدين، وذلك في مقابل المجتمعات الأخرى المضادة للدين ... وبدهيّ أنه لا
فرق في الإسلام بين المسمين، فكل ما ليس دينياً من المبادئ والتطبيقات فهو في
حقيقته مضاد للدين، فالإسلام واللادينية نقيضان لا يجتمعان ولا واسطة بينهما [2] . وإذن فالعلمانية دولة لا تقوم على الدين، بل هي دولة لا دينية، تعزل الدين عن
التأثير في الدنيا، وتحمل الأمة على قيادتها للدنيا في جميع النواحي السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها بعيداً عن أوامر الدين
ونواهيه.
والعلمانية دولة لا تقبل الدين إلا إذا كان علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه،
بحيث لا يكون لهذه العلاقة أي تأثير في أقواله وأفعاله وشؤون حياته.
(ولا شك أن هذا المفهوم الغربي العلماني للدين على أنه علاقة خاصة بين العبد والرب، محلها القلب، ولا علاقة لها بواقع الحياة ... جاء من مفهوم كنسي محرّف شعاره (أدّ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) ، من واقع عانته النصرانية ...
خلال قرونها الثلاثة الأولى، حين كانت مضطهدة مطاردة من قبل الامبراطورية
الرومانية الوثنية فلم تتمكن من تطبيق شريعتها، واكتفت بالعقيدة والشعائر التعبدية
اضطراراً واعتبرت ذلك هو الدين، وإن كانت لم تتجه إلى استكمال الدين حين
صار للبابوية سلطان قاهر على الأباطرة والملوك، فظل دينها محرفاً لا يمثل الدين
السماوي المنزل، فلما جاءت العلمانية في العصر الحديث وجدت الطريق ممهداً،
ولم تجد كبير عناء في فصل الدين عن الدولة) [3] ، وتثبيت الدين على صورته
الهزيلة التي آل إليها في الغرب.
وإذن فالعلمانية: رد فعل خاطئ لدين محرّف وأوضاع خاطئة كذلك، ونبات
خرج من تربة خبيثة ونتاج سيئ لظروف غير طبيعية، فلا شك أنه لم يكن حتماً
على مجتمع ابتلي بدين محرف أن يخرج عنه ليكون مجتمعاً لا دينياً، بل
الافتراض الصحيح هو أن يبحث عن الدين الصحيح.. فإذا وجدنا مجتمعاً آخر
يختلف في ظروفه عن المجتمع الذي تحدثنا عنه، ومع ذلك يصر على أن ينتج
اللادينية ويتصور أنها حتم وضرورة فماذا نحكم عليه؟ [4] فقط نثبت السؤال،
ونترك - لا نقول لكل مسلم - بل لكل عاقل الإجابة عليه!
أما نحن فنكرر هنا أنه لا يوجد دين جاء من عند الله هو عقيدة فقط، والدين
الذي هو عقيدة فقط (أو عقيدة وشعائر تعبدية، دون شريعة تحكم تصرفات الناس
في هذه الأرض، هو دين جاهلي مزيف لم ينزل من عند الله) [5] .
2- العلمانية.. وحق التشريع المطلق:
في مسلسل نبذ الشريعة الإسلامية، وفصل الدين عن الحياة في دار الإسلام،
كانت الحلقة الأخيرة هي النص في دساتير الدول في العالم الإسلامي على تقرير
حق التشريع المطلق للأمة من دون، الله، ونصت بعض الدساتير على اعتبار
رئيس الدولة جزءاً أصيلاً من السلطة التشريعية. واكتفى البعض الآخر بالنص
على الحقوق التي يمارسها رئيس الدولة في مجال التشريع وهي حق الاقتراح،
وحق الاعتراض أو التصديق. فالأنظمة العلمانية تقر بالسيادة المطلقة للأمة،
وتنص في دساتيرها على أن القانون هو التعبير عن إرادتها المطلقة ... فالأمة -
بزعمهم - هي التي تقرر الشرائع التي تحكم بها، وحقها في ذلك بلا حدود! !
ولا شك في أن هذا في حقيقته هو الإقرار بحق التشريع المطلق للأمة لا
ينازعها فيه منازع ولا يشاركها فيه شريك.. فما تحله هو الحلال وإن اجتمعت على
حرمته كافة الشرائع السماوية، وما تحرمه هو الحرام وإن اتفق على حله كل دين
جاء من عند الله. ذلك أن الأمة في الأنظمة العلمانية هي مصدر التشريع، وما
يصدر عنها هو القانون. (والقانون ليس بنصيحة ولكنه أمر، وهو ليس أمراً من
أي أحد، ولكنه أمر صادر ممن يدان له بالطاعة، وموجه إلى من تجب عليه تلك
الطاعة) [6] .
وإذا كان سلطان الأمة يتجسد في السلطة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية
فإنه (لا يوجد قانون بالمعنى الصحيح إلا إذا صدر عن السلطة التشريعية في الحدود التي رسمها له الدستور، وكلتا السلطتين التشريعية والقضائية بهذا الاعتبار مشتركتان في الخضوع لسيد الكل.. ألا وهو الدستور.. الذي يجب أن يحني الجميع أمامه رؤوسهم صاغرين..) [7] .
وتأمل معنى هذه الكلمات، وقل معي: رحم الله ابن تيمية ... القائل: (إن
الإنسان أمام طريقين لا ثالث لهما، فإما أن يختار العبودية لله.. وإما أن يرفض
هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله) . [8]
3- العلمانية.. والمصدر الرئيسي للتشريع:
هناك شبهة قد يشوش بها العلمانيون، وهي أن بعض الدساتير العلمانية تنص
على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.. مثل دستور مصر
الذي جاء في مادته الثانية: أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي
للتشريع ... ونحن نقول في الرد على هذه الشبهة: - إننا لا نحكم إلا بما نعلم، ولا نجزم إلا بما نرى المحاكم الوضعية تمارسه صباح مساء،.. فهذه المحاكم لا تزال ملزمة قانوناً بتطبيق القوانين الوضعية، ولا يزال القضاة في هذه المحاكم غير قادرين بأي حال من الأحوال على تطبيق الشريعة الإسلامية.
ففي قضية اغتيال السادات أسس الدفاع عمله على الدفع بعدم الدستورية لأن
نصوص القوانين مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية التي تعتبر المصدر الرئيسي
للتشريع وفقاً لأحكام المادة الثانية من الدستور الصادر عام 1971، والمعدلة عام
1980.. فماذا قالت المحاكمة في ردها على ذلك؟
جاء في رد المحاكمة: (.. رداً على هذا الدفع، فإن المحكمة تشير بادئ ذي ... ...
بدء إلى ما هو مستقر من أن قواعد التفسير للنصوص تأبى تأويل النص أو تحميله
أكثر مما يحتمل إذا كان واضحاً لغوياً فعبارة (المصدر الرئيسي للتشريع) لا تمنع
لغوياً وجود مصادر أخرى للتشريع، وهو نفس مفاد النص قبل تعديله) [9] .
أرأيتم.. إن المحكمة تؤكد أن العبارة شركية، وأنها تنص على وجود مصادر أخرى غير الشريعة الإسلامية.
ولماذا نذهب بعيداً؟ لقد حدث بالفعل أن حكم قاضٍ بالجلد في جريمة سكر،
متأولاً هذه المادة من الدستور ... فماذا كانت النتيجة؟
لقد أُبِطل حكمه، وأقصي عن القضاء. وكان مما ذكره رئيس محكمة
الاستئناف في أسباب بطلان هذا الحكم ما يلي:
1- إن من قضى بذلك فقد حنث في يمينه القضائي الذي أقسم فيه على الحكم
بالعدل واحترام القوانين، ... والعدل كما يقول رئيس محكمة الاستئناف: يعني أن
يقضي القاضي في الواقع المعروض بالعقوبة الملائمة في حدود القانون المطبق..
ثم يضيف قائلاً: فقضاء المحكمة بقانون آخر غير القوانين المطبقة في ذلك حنث
باليمين، فما بالك بمن طبق أو يخترع قانوناً يعلم أنه غير معمول به! !
2- ... وجنائياً لا يجوز، ولا يقبل من القاضي أن يجرم فعلاً لا ينص
القانون على اعتباره جريمة، ولا يجوز له ولا يقبل منه أن يقضي بعقوبة لم ينص
القانون عليها.
3-إن مصدر هذا القانون لم يعرف شيئاً عن علم العقاب، فقد (شدد) المشرّع
الوضعي في العقوبة وجعلها ستة أشهر حماية للمجتمع، وهذا أحفظ من مجرد الجلد
ثمانين جلدة. [10]
أرأيت - أخي المسلم - إن هذه العلمانية ترى أن التشريع الوضعي أحفظ
لأمن المجتمع من الشريعة الإسلامية.. وأن القاضي الذي حكم بالجلد لم يعرف شيئاً
عن علم العقاب.. وهكذا.. وكأن القوم يقولون إن الله - تعالى الله عما يقولون
علواً كبيراً -لا يعرف شيئاً من علم العقاب عندما أكتفى بمجرد الجلد على
السكر ... سبحانك هذا بهتان عظيم.
ومن الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس، ويحكم فيهم خيراً مما يشرع
لهم ويحكم فيهم ربهم سبحانه؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء
العريض؟ .. أيستطيع أن يقول إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟ أيستطيع أن
يقول: إنه أرحم بالناس من رب الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أعرف بالناس
ومصالح الناس من إله الناس؟ ... أيستطيع أن يقول: إن الله سبحانه وهو يشرع
شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير، ويجعل رسوله خاتم النبيين، ويجعل
رسالته خاتمة الرسالات ويجعل شريعته شريعة الأبد، كأنه سبحانه يجهل أن أحوالاً
ستطرأ، وأن حاجات ستجد وأن ملابسات ستقع، فلم يحسب حسابها في شريعته
لأنها كانت خافية عليه، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان! ! ! ما الذي يستطيع
أن يقوله ... وبخاصة إذا كان يدعي الإسلام؟
إنه مفرق الطريق، الذي لا معدي عنه من الاختيار..
إما إسلام، وإما جاهلية ... إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية..
وهذه العلمانية التي وصفنا حالها، ورأينا واقعها ليست يقيناً حكم الله القائم
على الكتاب والسنة ... فماذا تكون إلا حكم الجاهلية؟ قال تعالى:
[أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ]
فجعل الله الحكم حكمين لا ثالث لهما: حكم الله ... وهو الحكم القائم على
الكتاب والسنة،.. وحكم الجاهلية.. وهو ما خالف ذلك [11]
إذن فالعلمانية هي ... حكم الجاهلية.
(يتبع)