مجله البيان (صفحة 989)

علماء الاجتماع والعداء للدين.. (5)

علماء الاجتماع والعداء للدين وللصحوة الإسلامية

(?)

هل تحتاج بلادنا إلى علماء اجتماع؟

د. أحمد إبراهيم خضر

كشفنا في الحلقة الماضية كيف أن رجال الاجتماع في بلادنا قد أخذوا على

عاتقهم مهمة تفكيك الدين سعياً وراء (وهم استقلالية العلم) ، وبينا كيف رأى رجال

الاجتماع أن انتقاد الدين جزء لا يتجزأ من تكوين العلم، وأن صدام علم الاجتماع

مع الدين لا يتجزأ من تكوين العلم، وأن صدام علم الاجتماع مع الدين أمر لا مفر

منه، وأنهما إذا التقيا فإن التقاءهما لا يكون إلا عبر صراعات. وشرحنا كيف أن

رجال الاجتماع في بلادنا أرادوا أن يخضعوا الدين لتحليلاتهم وتفسيراتهم

وتصوراتهم وفي أذهانهم اعتقاد خاطئ بتصادم الدين والعلم في الإسلام كالحال في

بلاد الغرب. وكشفنا أيضاً عن ربط رجال الاجتماع شرعية ممارستهم للعلم

باستمرار صدامهم مع الدين، وعن أملهم في الانفلات من قبضة علماء الدين مثلما

انفلت علماء الغرب من الكنيسة. وأخيراً أوضحنا بأن عداء رجال الاجتماع للدين

مرتبط بعداء الدولة له وعددنا الخطوات التي قامت بها الدولة لتمهد الطريق لرجال

الاجتماع في أداء مهماتهم في تفكيك الدين.

هل تحتاج بلادنا إلى علماء اجتماع؟

الإجابة بلا قطعاً. لكن هذه (اللا) ليست من عندنا. إنها من أفواه وأقلام

علماء الاجتماع أنفسهم.

كان رجال الاجتماع في بلادنا ولا زالوا يتصورون أنهم طليعة هذه الأمة

وضميرها وأنهم القدوة والنموذج وأنهم الطلائع والضمائر. كانوا ولا زالوا يعتقدون

أنهم لا يبالغون إذا تصوروا أنهم يملكون في أيديهم (عناصر الترشيد الضرورية)

للمجتمع وأنهم يستطيعون توصيف المراحل التي يمر بها هذا المجتمع وتحليل قواه

الاجتماعية الفاعلة، وأنه بإمكانهم تقديم البدائل المتاحة أمامه [1] . لقد وصل الأمر

برجال الاجتماع في بلادنا إلى الاعتقاد بأن الخبير منهم يجب التبارك به [2] . نبع

هذا التصور الذاتي الوهمي المبالغ فيه عند رجال الاجتماع من نظراتهم إلى

المجتمع الذي لا يخرج عندهم عن مجتمع من الجهلة والأميين والمرضى والجائعين

والمتأخرين الذين على رجال الاجتماع تنميتهم وعلاجهم وعصرنتهم أو تغريبهم،

والإنسان العربي عندهم إنسان تقليدي متأخر متخلف [3] .

ما هي عناصر الترشيد الضرورية هذه التي يعتقد رجال الاجتماع أنهم يملكون

مفاتيحها؟ إنها أي شيء يمكن أن يكون إلا (الإسلام) .

إن من أبرز صفات هذا الإسلام أن الدين والعلم فيه متساندان ولا يتصادمان

كالحال في بلاد الغرب. ومع ذلك فإن من مسلماته الجوهرية (الإيمان بالغيب) .

الله تعالى نفسه (غيب) ، والملائكة والجن والشياطين والجنة والنار والبعث

والحساب واليوم الآخر، كل ذلك (غيب) ولن يستقيم الإيمان إلا بالاعتقاد في هذا

(الغيب) . وإذا كان علم (الغرب) قاصراً عن إثبات هذا الغيب فإن هذا ليس لعيب

في الدين وإنما لعيب وقصور في العلم ذاته.

سار رجال الاجتماع في بلادنا وراء الغرب (حذو القذَّة بالقذَّة) ودخلوا وراءه

(جحر الضب) الذي تحدث عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ففصلوا بين

الدين والعلم، ورفضوا الإيمان بالغيب بحجة أنه لا يستقيم مع العلم. الدكتور (أحمد

الخشاب) هو أحد رواد علم الاجتماع في بلادنا. تتلمذ على يديه معظم من يشغلون

الآن كراسي علم الاجتماع في جامعاتنا العربية. لقد علمهم أحمد الخشاب عناصر

الترشيد الضرورية هذه التي يتحدثون عنها الآن. علمهم فصل الدين عن العلم

ورفض الإيمان بالغيب الذي يعده أيديولوجية تمثل إطاراً مرجعياً لتفسير تبريري

تحكمه عقلية تسلطية رجعية.

يقول أحمد الخشاب في كتابه الذي خصصه لهذا الترشيد: (على أنه يجب أن

نؤكد أننا نرفض النظرة التقليدية للقيم الروحية التي تتمثل في مجموعة التصورات

الطقوسية التي تحويها الساحة الدينية وتغذيها الأيديولوجية الغيبية.. ذلك لأننا نعلم

عن يقين أن الأيديولوجية الغيبية كانت ولا تزال تمثل الإطار المرجعي للتفسيرات

التبريرية للعقلية التسلطية الرجعية) [4] .

ويعتبر أحمد الخشاب من أوائل الذين حاولوا صياغة نظرية اجتماعية عربية

وكان ذلك في عام 1970. وأول مسلمات هذه النظرية هو الإطاحة بما أسماه

(بالأطر العقائدية التقليدية) التي رأى أنها تعبر عن (طبيعة غير علمية) . اعتبر

الخشاب أن هذه العقيدة من أهم العثرات التي تقف في وجه هذه النظرية المنشودة [5] .

ولنعد قليلاً إلى مرحلة ما قبل الخشاب. كان عام 1908 هو عام تأسيس أول

جامعة أهلية علمانية في مصر ألقيت فيها أول محاضرات في علم الاجتماع

(القانوني) . وكانت الفترة من عام (1924 إلى عام 1936) هي فترة التحول

التدريجي لما يسمونه (بعلم الاجتماع العلمي) . وبفعل تأثير الأفكار التي حملها

(رفاعة الطهطاوي) والاحتكاك بالغرب في الحرب العالمية الأولى تدفق إلى مصر

كمٌّ من الأفكار الجديدة التي قال عنها رجال الاجتماع في بلادنا إنها: (تحدت الأفكار

القديمة وأعدت لمرحلة الانقطاع عن الماضي) أي (الإسلام) . شهد عام (1924)

تأسيس الجامعة المصرية (جامعة القاهرة حالياً) وهي جامعة حكومية حلت محل

الجامعة الأهلية. ألقيت في هذه الجامعة أول محاضرات منظمة في علم الاجتماع.

وكان من المنطقي مع تأسيس الجامعة الأمريكية في القاهرة في منتصف العشرينيات

تقديم برنامج منظم في علم الاجتماع، وبذلك أحكم الأمريكيون مع العلمانيين في

مصر ضبط خيوط تحقيق هذا الانقطاع عن الإسلام.

أما أول كراسي للأستاذية في علم الاجتماع فقد شغلها بالطبع أساتذة أجانب

بارزون وعلى رأسهم إيفانز برتشارد (1932 -1934) ، وآرثر موريس هوكارت

(1934-1938) أما في جامعة الاسكندرية فقد شغل كراسي الأستاذية في علم

الاجتماع اساتذة غربيون بارزون على رأسهم (راد كليف براون) و (ردنك أورلخ) .

لقد شهدت هذه الفترة انتشار الأفكار (الإلحادية) للفلسفة الوضعية (لأوجست

كنت) وللمدرسة الفرنسية في علم الاجتماع وأفكار المدرسة الأنتربولوجية البريطانية

والأفكار التحررية السائدة في الغرب [6] . وعن موقف هؤلاء الأساتذة الأجانب من

الدين يكفي هنا أن نستشهد بمقولة هامة قالها قطب الأنتربولوجيا الشهير (ايفانز

برتشارد) الذي كان أول من شغل كرسي الأستاذية في جامعة القاهرة والذي أشرنا

إليه في الفقرة السابقة، يقول برتشارد في عام 1959:

(إن الأنتربولوجيين بصفة عامة ذووا اتجاهات سلبية عدائية كئيبة ضد الدين. إن العلماء الأوائل الذين أثروا في الفكر الأنتربولوجي لأكثر من قرن كامل

يوقنون تماماً بعدم مصداقية الدين المنزل وأن كل العقائد نسبية. ورأى علماء القرن

التاسع عشر أن الدين غير حقيقي وعديم الفائدة ويجب استئصاله والتقليل من آثاره

وإنقاص هيبته بالتقدم العلمي، وحينما تحققوا من الوجود العام للدين عبر التاريخ

الإنساني حاولوا أن يشرحوا ما اعتبروه وهماً برده إلى عوامل نفسية ... إن معظم

البارزين من علماء الأنتربولوجيا لم يكن لهم اعتقاد ديني لأن العقائد كلها عندهم

مضللة) [7] .

نما علم الاجتماع في بلادنا بصورة سريعة لتحقيق هذا الانقطاع عن الدين

وعن الإسلام. عرّف علم الاجتماع موضوعاته وأهدافه وإمكانياته. وإذا قيست

الفترة الزمنية التي رسخ فيها هذا العلم في الجامعات العربية فإن نموه ولو مقيساً

فقط بعدد خريجيه ليشكل تقدماً ملحوظاً لم يصل إليه نظيره في الجامعات الغربية

والشرقية قي الفترة نفسها [8] .

شهد علم الاجتماع في تطوره الأكاديمي التنظيمي مراحل توسع ضخمة تركز

أكثرها خلال السبعينيات حيث أنشئ عدد كبير من أقسام الاجتماع في الجامعات

العربية سواء في مصر على امتداد رقعتها من القاهرة حتى أسوان، أو على امتداد

الوطن العربي من الكويت وبغداد والدوحة والإمارات شرقاً حتى فاس والرباط غرباً، مروراً بكل الجامعات الكبيرة والصغيرة حتى تلك الجامعات التي يطلق عليها

(محمود الجوهري) أستاذ الاجتماع بجامعة القاهرة (بالجامعات الدينية) كجامعة

الأزهر وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية [9] .

وهنا تكمن الكارثة الكبرى وهي غزو علم الاجتماع لما يسمونه بالجامعات

الدينية. وسنستشهد هنا بنموذج واحد لبيان ضخامة حجم هذه الكارثة. هذا زيدان

عبد الباقي أستاذ علم الاجتماع بكلية البنات بجامعة الأزهر يقول لطالباته: ...

(هذا وتواجه البلاد الإسلامية مشكلة مختلفة تماماً تدور حول جمود التقاليد الدينية الأمر الذي يتعارض مع التغييرات التكنولوجية ... ذلك أن الإسلام قد فرض كثيراً من الأوامر والنواهي على معتنقيه الأمر الذي يتعارض مع أي تغيير يستهدفه التقدم العلمي والتكنولوجي.. وإذا كان من المتفق عليه أن العقيدة الدينية ... تتطابق مع كل نموذج معقول من الفكر فإن غاية واحدة لطيف أنوار العقيدة الدينية تجعل السحر بمثابة العنصر السائد للدين) [10] ..

لم يكن باستطاعة علم الاجتماع في بلادنا أن ينمو دون أن يقدم مزاعم

عريضة عن فائدته المجتمعية العامة وأهلية ممارسيه، واحترافهم فلم يتردد مؤسسوه

ودارسوه أن يعلنوا منذ البداية بأن علمهم يعد (وصفة طبية ناجحة) لعلاج جميع

أمراض مجتمعهم [11] .

ولهذا فإنه في خلال نصف القرن الأخير دخل علم الاجتماع ضمن مناهج

الدراسات الجامعية في أقسام وشعب متخصصة يصل عددها إلى حوالي ثلاثين

شعبة، وبعد أن كان يدرس في البداية على أيدي هواة من المتخصصين في فروع

معرفة أخرى سرعان ما أصبح تدريسه على أيدي متخصصين في علم الاجتماع

ذاته يصل عددهم بمعيار الحصول على الدكتوراه إلى حوالي المائتين. ويصل عدد

الطلاب المتخصصين في علم الاجتماع في الجامعات والكليات العربية حتى الآن

إلى حوالي عشرة آلاف طالب يتخرج منهم سنوياً حوالي ألفي طالب. كما يوجد في

الوطن العربي ما لا لم يقل عن خمسة عشر مركزاً بحثياً في علم الاجتماع أو بعض

فروعه. ويظهر في المتوسط حوالي مائة كتاب سنوياً يؤلفها أساتذة الاجتماع العرب

بالإضافة إلى مئات من الأوراق المقالات والتقارير البحثية والاستشارية، علاوة

على عشر مجلات أكاديمية متخصصة في علم الاجتماع [12] .

وبعد سبعة وسبعين عاماً من هذا النمو والازدهار والتضخم الكمي والمؤسسي

في علم الاجتماع (المنقطع عن الإسلام) اجتمع رجال الاجتماع العرب في تونس

وبالتحديد في يناير1985 لمناقشة محصلة هذا الانقطاع وهل أثمر التخريب المتعمد

للنسيج الاجتماعي في بلادنا وذلك في ندوة بعنوان (نحو علم اجتماع عربي) . كان

أهم نتائج هذه الندوة الاعتراف الصريح بالفشل الذريع الذي تجسد في إجاباتهم على

سؤال طرحوه بأنفسهم هو: (هل يستطيع الوطن العربي أن يعيش ويزدهر بدون

علماء اجتماع؟) اعترف رجال الاجتماع ويعتصرهم الألم الشديد اعترافاً جلياً بأن

بلادنا ليست في حاجة إليهم، وأنها ليست في حاجة إليهم الآن كما لم تكن في حاجة

إليهم في الماضي.

وهذا هو نص اعترافات سعد الدين إبراهيم الأستاذ بالجامعة الأمريكية

بالقاهرة يقول فيها مجيباً على السؤال السابق:

(راودني هذا السؤال منذ سنوات وأنا أفكر في كتابة هذه الدراسة التي

أشارك بها زملائي المشتغلين بعلم الاجتماع في الوطن العربي. وكنت قد قررت أن

تكون مساهمتي المتواضعة في هذه الندوة جولة صريحة في أعماق الضمير

السوسيولوجي، إن كان ثمة ضمير سوسيولوجي ... وحتى لا أطيل في المقدمات

فإن إجابتي الشخصية عن السؤال بكل الصدق المؤلم هي أنه (نعم) . نعم يستطيع

مجتمعنا أن يعيش وبتقدم بلا علماء الاجتماع العرب، ولكي أخفف على نفسي ألم

هذه الإجابة حاولت توجيه هذا السؤال نفسه بالنسبة إلى فئات أخرى في المجتمع،

وخلصت إلى أن هناك فئات عديدة لا يستطيع المجتمع أن يعيش بدونها أهمها:

الفلاحون والعمال ورجال الإدارة والجيش، وأن هناك فئات أخرى لا يستطيع

المجتمع أن يتقدم بدونها أهمها: المهندسون والأطباء والعلماء وخبراء التكنولوجيا

والاقتصاد.. أما علماء الاجتماع والأنتروبولوجيا والنفس والسياسة والإعلام والآثار

وفئات أخرى عديدة فيمكن للمجتمع أن يعيش ويتقدم بغيرهم.

وبشكل آخر لو وضعنا السؤال: ماذا يحدث للوطن العربي إذا اختفى كل

علماء الاجتماع فجأة؟

والإجابة هي: لا شيء سيحدث للمجتمع سلباً أو إيجاباً، وينطبق ذلك على

فئات مهنية أخرى كما ينطبق على مجتمعات أخرى عديدة. وبالمقابل هناك

مجتمعات تقدمت في العصر الحديث دون أن يوجد فيها فئة مهنية تسمى علماء

الاجتماع مثل اليابان إلى ثلاثينيات هذا القرن، والصين إلى عقود متأخرة من هذا

القرن. كذلك ليس هناك ما يثبت قطعياً أن بريطانيا وألمانيا وفرنسا والولايات

المتحدة ما كان لها أن تتقدم خلال القرنين الأخيرين لولا وجود علماء الاجتماع فيها. وما أريد أن أخلص إليه هو أن علماء الاجتماع كفئة مهنية متخصصة ليست

ضرورية في المجتمع الحديث وبالطبع، لم تكن ضرورية في المجتمع التقليدي) [13] .

لم يكن هذا الاعتراف الصريح والمؤلم هو الاعتراف الوحيد لمحصلة (الثورة

على الدين والانقطاع عن الإسلام) إنما كانت هناك لرجال الاجتماع اعترافات أخرى

لا تقل شدة في إيلامها وقسوتها عن هذا الاعتراف نترك الحديث عنها للعدد القادم

إن شاء الله.

(يتبع)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015