مجله البيان (صفحة 984)

فى اللهب ولا نحترق

الافتتاحية

في اللهب ولا نحترق!

إن الأمم والشعوب كالأفراد، يقلد بعضها بعضاً، ويتأثر ويؤثر بعضها في

بعض، وهذا أمر طبيعي وسر من أسرار الصراع الذي تقوم عليه الحضارات.

وهذا التأثر والتأثير: بعضه ما تسعى إليه الجهة الغالبة، على غير رغبة من

المغلوبة، وبعضه ما تسعى إليه الجهة المغلوبة على غير رغبة من الغالبة..

ونحن - المسلمين - لا نشذ عن هذه القاعدة فقد أثَّرنا وتأثرنا، واقترضنا وأقرضنا، سواء عن رضا ووعي، أم عن كره وإذعان. غير أن كفة الاقتراض والاستدانة قد بدأت ترجح يوماً بعد يوم، حتى وصلنا إلى مرحلة الإفلاس والاعتماد على الاستدانة في جميع المجالات تقريباً.

ومنذ أن دَهَمنا الغرب دَهْمَتُه الثانية بحضارته الوثنية المسيحية، قبل حوالي

قرنين تقريباً، ونحن نتخبط كالعميان في ظلمة مطبقة، نحاول المخرج من هذا

المصير الذي صرنا إليه، وكلما ظننا - أو ظن بعضنا - أننا كدنا ننجو، جَبَهَنا

جدار جهم قاسٍ، فأصابنا دوار يشل الحركة زمناً، ثم ننهض نتلمّس المخارج من

جديد. ولا ننفك - ونحن في هذه الحالة البائسة - عن التلاوم وتبادل التهم التي

تؤدي كثيراً إلى أن يأخذ بعضنا برقاب بعض، وتشحن القلوب، وتنتفخ الأوداج،

فمن ملقٍ سبب ارتطام رأسه بالجدار على زيد الذي لم يحذره، وآخر على عبيد

الذي قاده إلى ذلك، وثالث على الجدار نفسه أنْ كان صلباً قاسياً، ولم يكن لينا

كالعجين يجد الناطح في نطحه متعة! وننسى أننا عميان، أو كالعميان، وغفلنا عن

السبب الأساسي لما نعانيه، وهو فقدان الحاسة التي بها نرى ونبصر.

نقف اليوم على عتبة مرحلة يبدو أنها جديدة و (منعطف تاريخي حاسم) بلغة

مفكرينا الذين يكتبون ويخطبون [1] . وكاتب هذه السطور ما زال - منذ نعومة

أظفاره - يسمع ويقرأ عن (المنعطفات التاريخية الحاسمة) في تاريخنا الحديث،

وبينما كانت هذه المصطلحات تعجبه بطنينها ورنينها وهو صغير؛ دون أن يفهم

مدلولاتها ومراميها، إذا به يكتشف بعد برهة - وقد زالت الأغشية عن بصيرته -

أن هذه الكلمات استنفدت أغراضها، وجفت عصارتها، وأن مكانها المناسب هو

(سلة المهجور من الكلام) الذي تتجوزه الفِطَرُ البشرية لأنه لم يعد يعبر عما في نفوسها، ولم يعد مرآة صقيلة ناصعة تنعكس عليها نفس متحدثيها واضحة محددة صحيحة.

وإذا استعملت هذه الكلمات، مع هذا الموقف منها؛ فلأنني متأثر بما حولي،

ومنفق من (عملة) زمني، وهدفي أن أصل بالقارئ إلى هذه المرحلة التي نحن

وأجيالنا الآتية مقبلون عليها.

لقد وصلنا إلى هنا، حيث فقد الناس الثقة بكل ما نصب من الأصنام خلال

تاريخ العرب الحديث. أخرجوا المستعمرين من الأبواب فجاؤوهم من النوافذ، آمن

بعضهم بالشيوعية والاشتراكية فماتت وبالت عليها الثعالب، وضعوا ثقتهم في ما

سمي بالثورات فاحرقت هذه الثورات الأخضر واليابس وأهلكت الحرث والنسل

واستأصلت الزرع، وجففت الضرع.

وقد تميزت هذه الفترة بأمرين متزامنين تقريباً، يحسن الوقوف عندهما

لاستشراف نتائجهما وهما:

1- سقوط الشيوعية وتمرد الشعوب التي كانت محكومة بها عليها، قبل

حرب الخليج وبعدها.

2- حرب الخليج نفسها، وما تمخض عنها من نتائج مأساوية على العرب

بشكل خاص، وعلى الأمة الإسلامية بشكل عام.

وقد استبشرت شعوب كثيرة بسقوط الشيوعية، ورأت في ذلك مؤشراً

وإرهاصاً لما تتمناه من تغيير هي بحاجة ماسة إليه، ولم يقتصر هذا الاستبشار

على الشعوب التي اكتوت بنار هذا المبدأ الخبيث بشكل مباشر، بل إن شعوباً كثيرة

اهتزت فرحة لهذا السقوط - وإن لم تطبق عليها الشيوعية بحذافيرها - بل لأن

الأنظمة التي جُرّبت عليها كان فيها شبه ما بالأسلوب الذي طبق في روسيا وأوربا

الشرقية والصين وغيرها ... نعني به أسلوب الكبت والقهر والعسف وتكميم الأفواه

ومصادرة الحريات والاستهانة بالإنسان من حيث هو إنسان، وجعل السلطة والتنعم

بخيراتها حكراً - في دائرة مغلقة من المقربين والمحاسيب، دائرة لا يدخلها إلا من

رضي بالدون واستهان بالقيم، ورضي أن يقاد من أسوأ جانب يقاد منه الإنسان

وهو جانب الشهوات والجري وراء حظوظ النفس الرخيصة.

لكن على الرغم من هذه التغييرات العميقة هنا وهناك؛ فقد ظلت شعوب

ترسف في واقعها المر الذي فرض عليها فرضاً، وينتقل بها من سيء إلى أسوأ،

وإن العاقل الذي يحاول استخلاص جامع يجمع هذه الشعوب يكتشف بأدنى نظرة أن

صفة مشتركة تجمعها وهي الإسلام الذي ما زال عبر القرون - ولن يزال - العدو

الأول للغرب (الوثني المسيحي) . إن كثيراً من أبناء جلدتنا المخدوعين يظنون أن

الحضارة الغربية اليوم لا صلة لها بوثنية ولا بمسيحية، بل هي قائمة على مصالح، وأن المجال مفتوح للعرب للتأثير في هذه المصالح. وهذا ظن مضلل لأنه في

حقيقته دعوة للعرب وللمسلمين أن يتخلوا عن عقيدتهم وتاريخهم، وأن يبنوا

خططهم على المصالح الآنية كالغرب. وسبب الضلال والتضليل كامن في هذه

الدعوى، وهو الاعتقاد بأن الغرب الذي يعبد المادة قد تخلى عن عقائده وتجاهل

عن تاريخه. إن التاريخ الذي يصوغ عقلية الغربيين والذائبين في حضارتهم هو

مزيج من الوثنية ومن المسيحية المحرفة والخاضعة للمفاهيم الوثنية، فهو تاريخ

وثني في منطلقاته وأهدافه مموه ببعض التمويه المسيحي، واليوم - ونحن نرى هذا

الرجل الغربي وقد تمرد على الأديان كلها - ومنها النصرانية نفسها- فلأن المسيحية

التي عهدها لم تعد قادرة على تمويه هيكل الحضارة الوثنية الذي كبر وتشعب

وأصبح له كثير من الرؤوس المخيفة التي يعجز طلاء المسيحية الهش عن سترها

وتجميلها وتغطية القبح البادي منها.

ولكن مع كل هذا فلا زال هذا الغرب على الرغم مما صار إليه، يزعم ويظن

أنه على شيء من المسيحية التي دان بها أجداده، وعملوا باسمها أعمالاً يرى هو

أنها أعمال عظيمة، ويتصور أنه حامل هذه المفاهيم وأن هناك دوراً ينتظره، ومن

يستعرض خطب (بوش) وأحاديثه أثناء وبعد أزمة الخليج يكتشف بسهولة أنه

الناطق الرسمي المعاصر للتاريخ الغربي الوثني المسيحي، وأن لا شيء جديد في

النظام العالمي الجديد الذي يبشر به هو وفريقه، بل هو (خمر عتيق في دنان

جديدة) .

ونريد أن نخلص من هذا الاستطراد الذي لا جديد فيه إلى التساؤل:

* ألا يحق لنا نحن - المسلمين - أن تكون لنا مطامح كسائر البشر وأهداف

عليا نعمل من أجلها ونتنافس مع غيرنا من البشر لتحقيقها؟

* هل عقيدتنا الإسلامية بمثل هذا السواد؛ وتاريخنا الإسلامي بمثل هذا العار

حتى نتهرب من تبعاتهما ونتخلى عنهما - كما نفعل الآن - ونلهث وراء السراب

فنضع ثقتنا كلها في الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة؟

* هل صحيح أن منطقتنا قد وقعت وقوعاً لا رجعة فيه تحت الهيمنة المطلقة

لواضعي (النظام العالمي الجديد!) وأن ذلك أصبح قدراً مقدوراً وكتاباً مسطوراً؟

هذه الأسئلة وغيرها نابعة من الواقع الذي نعيشه، كل الأمم تحاول أن تجدد

في حياتها باستقلالية ودون وصاية إلا نحن، لا يسمح لنا أن ننظر إلى المستقبل

بأعيننا بل بأعين غيرنا، ولا يؤذن لنا أن نقرأ تاريخنا بعقولنا بل بعقول من

صنعهم التبشير وعبيد الغرب، ولا يراد لنا أن نعيش بشراً كالبشر بل بشراً

منزوعةً عنهم مميزات البشر،

أبناء المسلمين (لحم على وضم) [2] ودم مستباح مطلول لا يستقاد له،

وأموالهم نُهبى لكل طامع، وغيرهم يمشي مرفوع الرأس على أرضهم، مضمون

الحقوق، سالماً من المحاسبة على كثرة المخالفة، بينما هم المتهمون في أرضهم

حتى تثبت براءتهم، وحالهم اليوم ليست بعيدة من الحال التي وصف فيه الشيخ

محمد عبده أهل مصر في عهد حكم محمد علي وأسرته حيث قال:

(أخذ (أي محمد علي) يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان ...

يحن لشَبَهٍ فيه ورثه عن أصله الكريم، حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق في

البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة، وعلى أية

وجهة.. فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي

لتصير البلاد المصرية جميعها إقطاعاً واحداً له ولأولاده على أثر إقطاعات كثيرة

كانت لأمراء عدة.

ماذا صنع بعد ذلك؟ .. اشرأبت نفسه لأن يكون ملكاً غير تابع للسلطان

العثماني.. فجعل من العدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوروبيين فأوسع لهم في

المجاملة وزاد لهم في الامتياز خارجاً عن حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين

الدولة العثمانية، حتى صار كل صعلوك منهم - لم يكن يملك قوت يومه -ملكاً من

الملوك في بلادنا، يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل. وصغرت نفوس الأهالي

بين أيدي الأجانب بقوة الحكم، وتمتع الأجنبي بحقوق الوطني التي حرم منها،

وانقلب الوطني غريباً في داره، غير مطمئن في قراره، فاجتمع على سكان البلاد

المصرية ذلان:

1- ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة.

2- وذل سامهم الأجنبي إياه ليصل إلى ما يريده منهم غير واقف عند حد أو

مردود إلى شريعة) [3]

عجباً لهذه الأمة - الأمة الإسلامية! لقد مَرَنَتْ على الظلم حتى كدنا نقول:

إنها تستحلي طعمه، وتجد في ممارسته عليها لذة وأي لذة! وقد شاء الله لها هذا

الموقع لتستفيد العبر ممن يعبرها مُشرَقَّاً ومُغَرَّباً، وتقطف ثمار التجارب دون كبير

عناء، ولكننا نكاد نقول: تحجرت وفقدت الحس، الأمم تمشي وهي واقفة،

والأحداث تتوالى وهي تقابلها بهز الكتفين. وفي هذا الليل المدلهم، يبزغ نور حق

هنا ويرتفع صوت مخلص هناك، سرعان ما يكبته الكابتون ليعود بعد ذلك صوت

ونور آخر من حيث لا يحتسبون صارخاً في الأمة أن أفيقي فقد طال السبات ويكون

مصداقاً واقعياً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على ...

الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [4] .

إن المسلمين ليتطلعون - في هذه الفترة العصيبة - إلى تغيير يمسُّ الأسس

التي تقوم عليها حياتهم المعاصرة، ولن تجديهم بعض التعديلات السطحية التي

تجري للدعاية والخداع، ولا يحل عُقَدَهم؛ ولا يطلق طاقاتهم إلا تجديد قائم على

العقيدة الإسلامية، وليس تقليداً لأفكار الغرب وصنائع الغرب وعبيد الغرب

المفروضين عليهم بشتى الوسائل غير الأخلاقية الظاهرة والمستترة. لقد آن الأوان

للمسلمين - في كل بلد - أن ينظروا إلى أنفسهم ويوحدوا جهودهم ويكثفوها

للخروج مما هو مضروب عليهم، وأن تكون لهم أهداف كبيرة، وأن لا تشغلهم

الصغائر والمثبطات التي ينفذ منها الشياطين ويستغلونها لضربهم وتفريق جمعهم.

... (حتَّامَ نحن نساري النجمَ في الُّظلمِ) [5] ؟ !

طور بواسطة نورين ميديا © 2015