تعقيب على مقال
" وقفة مع عمل المرأة المسلمة "
أم عبد الله
اطلعت على مقال (وقفة مع عمل المرأة المسلمة) شاكرة للأخت (أم عبد الرحمن) حماسها الطيب ومحبتها للخير ورغبتها في تعميمه والدعوة إليه.. مثنية بالشكر على مجلتنا (البيان) لاهتمامها بقضايا الأمة دقيقها وجليلها، سدد الله على الدرب خطاها.
ثم أما بعد.. فهذا تعقيب على مقال الأخت كتبته من باب التجربة ومعايشة
الواقع الحي ولا ألزم أحداً في قبوله [إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ]
[هود: 88] ، وسأجمل القول في النقاط التالية:
أولاً: نحن كمسلمين ملتزمين بأمر الشرع تعترضنا قضايا لا يبدو فيها الحكم
واضحاً ليس من حيث الحل والحرمة ولكن من باب خير الخيرين!
وهنا المرجع إلى القواعد الكلية للشريعة السمحة، تلك الضوابط التي مَن
أتقنها اتضحت السبل أمامه وأبصر سبيله.. ومن فقدها تعثر.. بل ربما هلك وهو
يحسب أنه يحسن صنعاً!
وفي هذه القضية عمل المرأة - وبالأخص مشاركة المرأة الملتزمة في الدعوة
إلى الله واستغلالها مجال التدريس لهذا الهدف - لعل الناظر إليه برويَّة وأمل
واستقراء لقواعد الشرع يرى أن الأمر فيه تفصيل.
1- فإن كانت المرأة عازبة - أرملة أو مطلقة ولديها من العلم والتقى والمنهج
السليم نصيب - فبها ونعمت! تدعو إلى الله تأمر وتنهى.. وترشد وتنصح بعلمها
وسلوكها وشخصيتها المتميزة ونيتها المتجردة فيعظم النفع ويضاعف الأجر [ومَنْ
أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت:
33] ، وهي في هذا مستشعرة واجب الدعوة (بلِّغوا عني ولو آية) [1] واضعة
نصب عينيها (اغتنم فراغك قبل شغلك) [2] .
فحيَّاها الله أخت مباركة أينما كانت وتقبَّل عملها وبارك فيه وزادها من هداه
[والَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ] [محمد17] .
2- فإن تزوجت ولم تُرزق أطفالاً فكذلك تستطيع بعون الله التوفيق بين عملها
ورعيتها بحسن تنظيم الوقت والاستعانة بالله (تعالى) .
3- فإن رزقت أطفالاً فالحال تختلف تماماً! أولئك أمانات استُودعت إياهم
والله سائلها أحفظت أم ضيعت.. سائلها عنهم قبل شؤون الدعوة المتشدق بها في
هذه الحالة، فلتفقه المرأة الداعية هذا ولتلزم بيتها ولتحفظ رعيتها موقنة بأنها تربي
الجيل المسلم.. وتعده وأنها تشارك الأمة في عملية البناء وهي في مملكتها.. وهي
مرابطة على ثغرها! !
مستشعرة عظم العبء الذي تنوء به كأم مربية داعية وأفلحت إن شعرت!
إنه ليؤسفنا أن تنظر الأخت الملتزمة إلى (البيت) هذه النظرة الرائجة..
وكأنه آخر ما تفكر فيه فما هذا عهدنا بذوات الخدور القانتات الحافظات للغيب!
[وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ] [الأحزاب: 33] عبودية يحبها الله فأحبِّيها.. وأحيي
شرع الله يحيي الله قلبك بالإيمان.
وهنا سؤال قد يطرحه البعض:
ماذا أربي في طفل وليد أو لم يبلغ سنة أو سنتين هل أنقطع من أجله؟ !
وهنا نحيلها على كلام الأستاذ محمد قطب (شبهات حول الإسلام) - فصل
الإسلام والمرأة ص138-139 ط. الشروق و (منهج التربية في الإسلام) ،
لمحمد قطب 2/108-109، ط. الشروق.
إن الأمومة رسالة لا تقبل المزاحمة بعمل آخر يمتصها معظم النهار في أنظمة
علمانية تعامل المرأة كالرجل. (حيث تبدأ دوامها من الساعة السابعة صباحاً حتى
الثانية ظهراُ، بل قد تبدأ المصلحة من السادسة والنصف؟
فبربِّكم أين يُترك الأبناء؟ ! إنها خيارات مُرة فما المُلجِئ لها؟ !
أعند الخادمات وهذا هو الملاحظ عند كثير من الأخوات الملتزمات، حيث
يرين أنفسهن داعيات للحق ومريدات للخير.. لا يردن أن يتركن المكان شاغراً
لأهل الباطل.. تراهن قد وقعن في استقدام الخادمات من شتى البلدان.. وحكم ذلك
الاستقدام لا يجهله مبتدئ في العلم والدعوة.. بل مسلم من العوام يحفظ حديث
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو
محرم) .
أم يترك عند الجدات اللاتي آن الأوان لبِرّهن وإكرامهن!
أفمن الإحسان إليهن وقد بلغن من العمر عتياً أن يبدأن رسالة جديدة هي
حضانة الأحفاد؟ !
أين الالتزام [وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً] [البقرة: 83] . لقد انقضت أعمارهن في
كدح وشقاء وشظف عيش.. أفلم يأنِ لهن أن يتفرغن لذكر الله والتقرب إليه!
لقد أدَّين رسالتهن وكفى!
شكر الله لهن ورزقهن الشكر لهن [اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا] [سبأ: 13] .
أو في الحضانات.. وأحيلها كذلك على المرجع السابق (شبهات حول الإسلام) .
ثانياً: وفي هذه الحالة - وهي التفرغ لتربية الأطفال وهي في حد ذاتها
عبودية - فلن تفتر الدعوة كما ذكرت الأخت (أم عبد الرحمن) أو تنقطع بل أراها
ستوجه وجهة أخرى تناسب الحال..
يقول ابن القيم - رحمه الله -: (لله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب
رتبته، سوى العبودية العامة التي سوَّى بين عباده فيها، فعلى العالِم من عبودية
نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ما ليس على
الجاهل.. وعليه عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره وعلى الحاكم من
عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على
المفتي، وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير،
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على
العاجز فيهما..) [3] والشاهد هنا أن على الأخت المتفرغة ما ليس على المنشغلة
بأمومة وزوجية ورعاية بيت! !
ولكن أيضاً (عبودية الدعوة إلى الله) تقوم بها (الأخت الأم) حين توجه
المسار! فلا تزال على الدرب وإن شُغلت، وبين رعاية الحقوق مع الضر
ورعايتها مع العافية بون بعيد [4] .
فأين الأخت الملتزمة الداعية من اجتماعات النساء بأنواعها من أعراس وولائم
وزيارات ولقاءات لِمَ لا تحييها بالكلمة الطيبة؟ !
أين الأخت الملتزمة من الاجتماعات العائلية لِمَ لا تحولها إلى رياض من
رياض الجنة تتخللها بالكلمة الهادفة [وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] [الشعراء: 214] .
أين هي من الجارات بل من الحي بأكمله إن كانت مارست التدريس وغُرست
فيه؟ لِمَ لا تجعل له درساً دورياً مستشعرة أن أعظم الإحسان إلى الخلق الإحسان
إليه بالعلم والهدى مستعينة بالكتاب الإسلامي والشريط الإسلامي وكل ما يخدم
الدعوة وييسرها، لقد جُرب هذا فأثمر.
ثالثاً: أن التدريس كوظيفة لها التزاماتها.. ويعرف هذا كل من مارس التعليم
الحكومي، الكثير من الأخوات لم يتركن التدريس كمجال للدعوة إلا بعد أن عانين
الأمرّين من ارتباك حياتهن الأسرية تحت ضغط أنظمة وقوانين لا تعامل المرأة
كمرأة! فكأن لسان حالهن يقول: (ما خرجنا إلا لله وما قعدنا إلا لله) ! .
ومعاناة أخرى تعانيها الأم المدرّسة الداعية فكيف ستكون سكناً للزوج الداعية
المرهق؟ !
إنها أمور جُربت وخُبرت.. ومن ذاق عرف!
فإذا كانت الدعوة عبودية، فالزوجية كذلك.. والأمومة كذلك، فلتوزن الأمور
بموازينها وليُعطَ كل ذي حق حقه.. ولنسرْ على الدرب بخطى مدروسة لا نقبل
أنصاف الحلول ولا نعالج الخطأ بالخطأ مستضيئين بقواعد هذا الشرع.
أما أن نترك بيوتنا وأطفالنا ورعايانا لنزاحم أهل الباطل في مواقعهم.. هكذا
بلا تفصيل فلا يقول به إلا مَن جهل الواقع.. أو تجاهل؟ ! ومَن تناسى الفطرة
والتبس عليه الخيران.
إن ترجيح الفاضل على المفضول قد يفوت بالحماس اللامنضبط بضوابط
الشرع، وذلك أمر يقع فيه الكثير إما لقصر النظر أو سطحيته أو استعجال النتائج
بغض النظر عن العواقب البعيدة!
وإن الزج بكل طيبة لمجال التدريس لتدعو إلى الله - بصرف النظر عن
حالها (أُماً كانت أم لا) - فيه نظر.. فليست القضية يا أختي (شؤون بيت) يساعد
فيها الزوج ويحتسب! فذلك أمر تقوم فيه الآلة بدور ولله الحمد.. ولكن القضية
المعمى عليها (قضية الأبناء) فهل نفقه؟ !
إن الأبناء والعناية بهم أعظم مجال تنصرف إليه المرأة وأشرف ما صرفت
فيه الجهد، وقضت فيه الوقت ولا يعادله أي مجال آخر، وهذا ما اعترف به
العقلاء والمنصفون في المجتمعات الغربية التي استهانت بهذا الدور؛ فحُرمت
السكينة.
فلتقم الأم بدورها متعبدة لله بذلك ولتقم الأخت الآنسة بدورها ولتدعو كل منهما
بما يناسب حالها فذاك الذي يُرضي ربها [والَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى] [الأعلى: 3] .
وختاماً، فليست هذه الكلمات تثبيطاً للهمم بل أحسبها تصحيحاً للمسار ونبراساً
[لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] [الملك: 2] .