إعلام
قليلاً من العاطفة ...
ودعونا نفكر أكثر!
أحمد بن راشد بن سعيّد
بعد غزو صدام للكويت كان الرد الإعلامي في الدول العربية المستهدفة من
الغزو عاطفياً إلى حد كبير.. وكانت الصحف والمجلات لا تكف عن نقد صدام
حسين والتشهير به.. وأغفلت كثيراً التحليل الموضوعي، والمعالجة المنهجية
للأزمة.
وقد يكون مفهوماً أن يستجيب الإعلام عاطفياً للأزمة في أيامها الأولى، فيبدي
امتعاضه واستهجانه للغزو والقائمين به، ولكن هذا لا يكون هو الشغل الشاغل
للصحافة طوال أيام الأزمة.. وقد لاحظنا كماً هائلاً من رسوم (الكاريكاتير) الساخرة
بشخص صدام حسين، وقصائد نبطية تملأ أعمدة الصحف.. وكان استمرار نشر
هذه الرسوم والقصائد بعد انقضاء الأيام أو الأسابيع الأولى للصدمة أمراً لا يخدم
القضية.. وكان الأولى هو تنبيه الرأي العام إلى أن القضية ليست شخصاً يظهره
(الكاريكاتير) على أنه حيوان أو مجنون، وإنما القضية قضية حكم فردي دموي
جائر، يتبنى طروحات وعقائد دخيلة على المسلمين.
كانت مساحات التحليل والنقاش، ومعالجة أسباب الأزمة واستقاء الدروس
محدودة جداً، وتكاد تكون غائبة إذا قورنت بمساحات الغضب والانفعال والتهكم
بحكم العراق ومؤيديه.
غير أن هناك نوعاً من الإعلام برز خلال الأزمة، واتسم بالموضوعية
والتعقل والطرح المتوازن، وهو إعلام المساجد أو الخطب والمحاضرات التي
ألقاها بعض المشايخ وطلبة العلم حول الأزمة.. وقد استقطب هذا الإعلام اهتمام
الجمهور، وكسب احترامه، مما حفز كثيراً من الناس لتسجيل أشرطته وتداولها..
لكن بعض الصحفيين والكتّاب الذين تسوقهم العاطفة أكثر من التفكير التحليلي أو
المنهجي، لم يعجبهم انتشار وشعبية الإعلام «المسجدي» ، وحاولوا مقاومته
والتحريض عليه باسم العقلانية والمنهجية، وكان أحد هؤلاء الدكتور عبد الله
الفوزان.
فقد كتب الدكتور في مجلة اليمامة (العدد 1123 7ربيع الأول 1411هـ) ،
مقالاً عن أزمة الخليج بعنوان: «كفى عواطف.. ودعونا نفكر» .. حذر فيه من
خطورة ما وصفه «بالإعلام السري» الذي «يتسرب في الظلام فلا يراه أحد» .. ومثل له «بالأشرطة» .. وعزا انتشار هذا النوع من الإعلام إلى ضعف ما
وصفه «بالإعلام العملي الرسمي» .
ووضح الدكتور الفوزان رأيه أكثر فقال: إن أحاديث بعض الإخوة في
(المساجد وحلق الذكر والمجالس الخاصة) «لا تصمد للعقل الفاحص» و «تحمل
قدراً كبيراً من الخطر على بعض السامعين البسطاء الذين يثقون أكثر مما
يفكرون» .. وعبارات الدكتور تشير بشكل واضح إلى أحاديث لبعض المشايخ وطلبة العلم حول الأزمة، وتحذر من تأثير سلبي محتمل لهذه الأحاديث على عامة الناس، لسبب جوهري وهو «مصداقية» هؤلاء المشايخ وتقبل الناس لكلامهم. ودعا الفوزان إلى مناقشة آراء هؤلاء في وسائل «الإعلام العقلي» ، حتى يتحصن الناس ضد ما وصفه «بالآراء الخاطئة والتحليلات البعيدة عن الصواب، التي يبثها الإعلام العقلي السري» .
وقد تجاهل الفوزان - تحت تأثير عاطفته المحضة - أن المساجد كانت
ولاتزال أماكن اجتماع المسلمين، وملاذهم في الخطوب، يناقشون فيها مشكلاتهم،
ويقترح فيها العلماء والخطباء حلولاً لهذه المشكلات، صادرين عن أصلين عظيمين
هما الكتاب والسنة، ومستشهدين بالتاريخ والآثار وأحوال الأمم الغابرة والحاضرة.. فإذا كان الدكتور قد عنى بالإعلام العقلي التحليل الموضوعي، والنقاش المبني
على المسببات والنتائج، والحلول والدروس، فإن المسجد هو المكان الأصلي
والطبيعي لمثل ذلك، إذ أنه أقدم وأشهر وسيلة إعلامية في التاريخ «الإسلامي..
وهذا بالطبع لا يعني التقليل من أهمية وتأثير الإعلام الحديث، إذ ينبغي أن تعمل
الصحيفة والإذاعة والتلفزيون جنباً إذ جنب مع المسجد في أداء وظيفة الإعلام
والاتصال وتبادل وجهات النظر.. ولا ضير أبداً من حديث أهل العلم في المساجد
وحلق الذكر، ولا خوف على الناس عامتهم وخاصتهم من ذلك، بل الخوف هو من
هذه النظرة الدونية إلى إعلام المساجد، والتي تقلل من فرص الإبداع والحوار،
والمشاركة الجماعية، وإثراء الرأي العام.
والغريب في الأمر أن الدكتور وأمثاله من دعاة العقلانية والمنهجية، يدعون
إلى تكرير هيمنة إعلام واحد فقط، ويحذرون من آثار سلبية مزعومة للإعلام
الأصلي النابع من ديننا وحضارتنا، وهو تحيز يقف بلا شك ضد العقلانية السوية!
إن عبارات» الإعلام السري «الذي» لا يصمد للعقل الفاحص «
و» يتسرب في الظلام فلا يراه أحد «.. هي عبارات مشحونة بالعاطفة والهوى، وليس فيها من العقل الفاحص ولا الناقص ذرة.
إن الدعوة ينبغي أن تكون لتوسيع نطاق الاعلام» المسجدي «والسماح له
بإثراء الرأي العام، وتصحيح الأخطاء القائمة.. كما ينبغي أن تكون لتصحيح
مسار الصحافة المغرقة في التنفيس العاطفي، وتوجيهها لكي تفسح مساحات أكبر
للنقاش الموضوعي، والنقد الذاتي، ووجهات النظر الأخرى.
لقد كشفت أزمة الخليج عن ضحالة كبيرة في الإعلام العاطفي وضيق أفق لدى
بعض أربابه، لا الذين يريدون وأد أصوات العقل والعاطفة، المنضبطة بحدود
الشرع.. كما كشفت عن قدرة الإعلام المسجدي (الذي تتميز به الأمة الإسلامية)
على الاتصال بالناس، والحوار معهم، وتحفيز مشاركتهم، وتوعيتهم وتثبيتهم.
بقي أن نقول: إن مهمة الاتصال بالمجتمع ليست حكراً على مؤسسة واحدة،
ولا» دكتور «أو» رئيس تحرير «بعينه، لا سيما إذا كانت الآراء التي يراد
إيصالها شاذة مستوردة، ومن النوع التحريضي العاطفي الصرف.
قليلاً من العاطفة إذن..
ودعونا نفكر أكثر!