مجله البيان (صفحة 883)

الجامعة فى مجهر القراءة المعاصرة

محاضرات

الجامعة في مجهر القراءة المعاصرة [*]

د. مصطفى السيد

أريد بمصطلح القراءة الوارد في عنوان هذه المحاضرة «نظرية القواعد التي

تحكم تأويلاً من التأويلات، أي تحكم تفسير نص من النصوص أو تفسير مجموعة

من العلامات التي يمكن النظر إليها بوصفها نصاً» .

(والسبب وراء شيوع مصطلح القراءة بمثل هذا التصور في ثقافتنا العربية

المعاصرة راجع إلى الرغبة في تأكيد الطابع التفسيري لكل فعل من أفعال القراءة

في مختلف المجالات الثقافية من جانب، وتأكيد الدور الذي يقوم به القارئ في

عملية القراءة من جانب ثان، وتأكيد الطبيعة المعرفية التي تصل القارئ بالمقروء

في عملية إنتاج معرفة جديدة من جانب ثالث) [1] .

هذه القراءة الإنتاجية هي نقيض للقراءة الاستهلاكية، والقراءة الإنتاجية فعل

حضاري وسلوك مدني، وهي بتوفيق الله السبب القوي لتغيير المواقع والواقع في

أي أمة، وهي معيار الحكم في الخلف في كثير من القضايا التي لا يكون الموضوع

سبب الاختلاف، بل يعود إلى الكم والكيف القرائي حول هذا الموضوع، ومثل هذه

القراءة لم تمت ولن تموت في عالمنا الإسلامي، ولكن الذي مات ولم يعد له جمهور

هو الكلام المكرر والفكر المبتسر، ولابد أن أشير إلى أن من لوازم هذه القراءة

الاطلاع المتكامل على العناصر، لأن المقروء وإن كان واحداً في النتيجة، فهو

ليس وحيداً في المسببات والمقدمات، أقول هذا لما يكتنف الحديث عن الجامعة

محاذير لا حد لها، ولعل أدهاها هو خطر السقوط في التنظير الأخلاقي المجاني

السهل، وهو أمر تميزت به كثير من القراءات وتوكأت عليه، وأرجو من الله أن

تربأ عنه هذه الدراسة، وقبل البدء نلقي هذا السؤال:

ما هي الجامعة؟

في المعجم الوسيط: (الجامعة مجموعة معاهد علمية، تسمى كليات تدرس

فيها الآداب والفنون والعلوم) [2] .

ويلحظ على هذا التعريف غياب العلوم الشرعية عن مفرداته، وفي ذلك

إخلال واضح بالصورة التاريخية للجامعة كما كانت عليه في تراثنا الجامعي المتمثل

في جامعة الأزهر؛ لأنها أقدم جامعة على وجه الأرض، حيث أنشئت عام 970 م، بينما أقدم جامعة غربية لا يتجاوز عمرها القرن الثاني عشر الميلادي، هذه

الجامعة الأزهرية كانت تحمل عبء الدراسة الشرعية واللغوية عبر القرون ولله

در أمير الشعراء أحمد شوقي القائل في فضل الأزهر [3] :

يا معهداً أفنى القرون جداره ... وطوى الليالي ركنه والأعصرا

ومشى على يبس المشارق نوره ... وأضاء أبيض لجها والأحمرا

وأتى الزمان عليه يحمي سنة ... ويذود عن نسك، وبمنع مشعرا

وهناك تعريف آخر «المؤسسة التي تتولى التعليم العالي» :

أما في الغرب فالكلمة مأخوذة من universitas، وقد أطلقت في العصور

الوسطى، كل المؤسسات التعليمية الجديدة وتعني: رابطة أو اتحاد بين مجموعة

بين الأفراد ينظمون بأنفسهم شؤون مهنة معينة) [4] .

ولكن من المهم ان نلاحظ أن الجامعة قد تحولت عن مفهوم كونها جامعة

أحادية الوظيفة لتصير قائمة على التعددية في الوظائف والأقسام، وهذا ما عبروا

عنه بالإنجليزية multiuniversity a to university From

وفي تعريف غربي معاصر للجامعة هي بالمعنى الدقيق:

(المؤسسة التي تعلم الطالب العادي أن يكون شخصاً مثقفاً وعضواً ناجحاً في

مهنة ما) [5] .

ولقد كان تعريف الجامعة ودورها يتطور في الغرب تبعاً للنظير الحضاري

والمعرفي، لأن الجامعة جزء من البنيان الفوقي للمجتمع، وتتأثر بالبنيان التحتي

وتؤثر فيه.

هي إذاً في متن الحياة العامة أوثق حلقاتها قربى وأكثرها أهمية [6] ؛ لأنها

(تحرض على الإبداع، وتستثير كوامن القلق، وتبعث هاجس العطاء الأصيل

المنفرد) [7] .

وأما اختيار الجامعة لهذه القراءة فلأنها تأتي في طليعة التشكيلات التي تحمي

عقيدة الأمة ووجودها الثقافي والعلمي، وتقف على خط الدفاع الأول ذائدة عن

حدودها الفكرية وتطلعاتها الثقافية، وجندها في ذلك فئة اجتماعية تعرف «المثقفة» التي تصوغ وعي الأمة وتقودها، وهي التي تتلقى مشاعر الأمة وآمالها النابعة

من عقيدتها، وحاجاتها الراهنة والمستقبلية والمتأثرة بتاريخها وتراثها، تتلقاها

وتحولها إلى وعي، وتحول الوعي إلى إرادة، وتحقق الإرادة في إنجازات.

إن النخبة من مدرسي الجامعة (إذ تقود الأمة فهي تنقل نشاطها في المقابل،

من حيز العلم الموضوعي اليومي الغارق في الجزئيات إلى مستوى العمل الإرادي

الفاعل النابع من رؤية شمولية) [8] .

وهي تفعل ذلك كله من خلال وظيفتها الرئيسية وهي:

«التحليل النقدي لعمليات إنتاج المعرفة ونشرها وتطبيقها» [9] .

وبذلك تكون الجامعة أحد المعالم الرئيسية لمؤسسات الأمة، كما في أدائها

لدورها المدخل الرئيسي لعمليات التنمية المعنوية والمادية للمجتمع المثالي المطلوب

إحداثه، من هنا مسؤولية الجامعيين، وكل القيمين على الجامعة في أن يكونوا

بمستوى حقيقة الجامعة ووظيفتها، ولا يمكن للجامعة أن تحقق سيادة العلم في وطنها

إذا لم تكفل سيادتها في داخلها أولاً، ولا أن تبعث القوى الخيرة في مجتمعها إذا لم

تكن هي قد حققت هذه القوى في صميمها، ولا أن تسهم في بناء حياة وطنها على

المبادئ والقيم، إذا لم تشد هي بنيانه ذاته على نفس هذه القواعد، وبقدر ما تكون

الجامعة ممثلة لهذه الحقائق على أرض الواقع، بقدر ما تكون النتائج متحققة حسب

التطلعات والآمال المرجوة منها.

في بحث لأستاذ العلاقات الاجتماعية بجامعة هارفارد بعنوان (فيروس العقل)

أجراه على أربعين بلداً وصل إلى هذه النتيجة: (وهي أنه كلما ازدادت مواد القراءة

في المؤسسات التعليمية التي تبحث على الأمل والعمل جاءت النتيجة بعد ذلك بنحو

عشرين عاماً زيادة في النمو الاقتصادي، والعكس كذلك صحيح، وكان من أهم ما

لاحظه الباحث في مطالعات البلاد التي تقدمت بعد حين أنها احتوت على العلاقات

الاجتماعية التي تجعل الفرد يعمل من أجل نفسه ومن أجل سواه في آن معاً، كما

كان من أهم ما لاحظه الباحث في مطالعات البلاد التي تدهورت بعدئذ أو واصلت

طريق التدهور أنها بالغت في الإشادة بالطرائق التقليدية في الفكر والسلوك) [10] ،

والتقليدية (اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتقداً الحقيقة فيه من غير نظر

وتأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول الخير أو فعله قلادة في عنقه) [11] .

ومن الطرائق التقليدية: الطريقة التلقينية التي تؤدي إلى الانقطاع بين

المجتمع ومضمون المواد الدراسية، لأن المعارف التي تلقن سواء منها ما ينتمي

إلى التراث، أو ينقل من العلم الحديث معارف غير مبيأة عربياً، غير معدة للغرس

والاستنبات في المجتمع؛ لاعتمادها أسلوب التلقين، ولقد كانت التلقينية التي

تسلسلت إلى العقل المسلم والثقافة الإسلامية حيناً من الدهر، وتقدمت المذهبية على

حساب المنهجية، كانت شذوذاً تأباه طبيعة الإسلام وعقيدة الإيمان التي دعت المسلم

إلى القراءة في كتاب الله المسطور هو القرآن، قال تعالى: [ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً] وقال سبحانه: [إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] ، فالارتباط واضح بين تحمل

المسؤولية وبين تأسيسها على القراءة المتأنية، كما دعته إلى التأمل في كتاب الله

المنشور، وهو الكون الواسع، قال تعالى: [إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ

واخْتِلافِ الَليْلِ والنَّهَارِ والْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ومَا أَنزَلَ اللَّهُ

مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وتَصْرِيفِ

الرِّيَاحِ والسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] [البقرة 64] .

فالثقافة التي تقدمها الجامعة ليست حشداً للمعلومات عن طريق التلقين (بل هي

تفاعل بين الإنسان والعقيدة والفكرة، ويظهر أثره في السلوك، فقد يحفظ الإنسان

معلومات كثيرة، ولكن سلوكه الاجتماعي غير مقبول، فنظرته للآخرين فيها

استعلاء واحتقار، وتقويمه للمواقف مبني على الأنانية وحب الذات، وتذوقه

للجمال ضعيف يدل على بلادة المشاعر، وضعف الإحساس، وكلامه خال من

المشاعر الرقيقة والمشاعر الطيبة ولا تظهر فيه آثر المعلومات التي يكتنزها، فمثل

هذا ليس مثقفاً، بل هو جهاز كمبيوتر من نوع بسيط ورخيص لقدرته المحدودة

على الاستيعاب والحفظ) [12] .

والإسهام في الثقافة هو إذاً غاية العمل الجامعي وكماله، وللإسهام هذا صيغ

وميادين تتنوع وتتعدد وتتمايز لكنها تتفق جميعاً في كونها إضافة أصلية متفردة.

الإسهام أن يضيف أو يقدم جديداً، والجديد متاح في ميادين الثقافة كلها، والعجز

عن الإضافة لا يعني العجز عن ولوج بوابات المستقبل فحسب، بل يعني كذلك

فشل الاحتفاظ بلحظة الحاضر، والكينونة التي لا يضاف إليها تخسر من ذاتها،

فتتراجع إمكاناتها وتنحط حتى الصدأ فالمرض فالموت، وتبقى في النهاية فيما لو

بقيت قفراً قاحلاً مجدباً، ذلك هو مصير جامعة لا تضيف إلى الثقافة جديداً،

ومصير طلاب وأساتذة يمضغون نظريات ويرددون اجتهادات خلف اجتهادات،

ويبقون خارج همّ الإضافة وعظمة الإبداع، الإضافة هي إعلان الحق بدخول

المستقبل) [13] .

وخير عون للجامعة على تحقيق رسالتها بعد توفيق الله حرية النقد المنهجي،

إذ كيف يمكن لمسيرة العلم والثقافة عموماً أن تتعزز ما لم يطلق العنان لنقد صادق

حر، لا يخضع إلا لسلطة النص الشرعي، أو الحقيقة العلمية، أما إذا أسقطنا

حرية النقد المنهجي «فإن ذلك يورث معرفة بائسة هجينة ملفقة، أدنى من أن

تستجيب لشروط الثقافة التي اؤتمنت الجامعة عليها. الجامعة مطالبة إذن إدارة

وهيئات بتشجيع ذلك اللون من النقد، فتحث عليه وتطلبه دوماً، فلا يطغى على

البحث التلقين ولا على النقاش التصديق الآلي، ولا تقدم المعرفة أياً كانت جاهزة

ونهائية، فالكلمة الأخيرة - ما عدا ثوابت الشريعة - اصطلاح لا محل له في العلم

والمعرفة، وإذا كان هناك كلمة أخيرة حقاً فهي للتجربة والاختبار والتاريخ [14] .

ولنا في المنهج القرآني مستند عظيم، فقد أعطى خصوم العقيدة فرصة التعبير

عن نظريتهم الكفرية، ليتبع ذلك نقدها، ومن ثم نقضها تأسيساً للحقيقة وتوجيهاً

للعقول السليمة إلى حرية الاختيار القائم على الأدلة الواضحة، قال تعالى: [أَمَّنْ

خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا

كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ] [النمل 60] .

وإذا كان أداء الجامعة لدورها يشكل صمام الأمان لعقيدة الأمة ومستقبلها

المؤسس على العلم، فإن إخفاقها يعد كارثة عظيمة، ولقد قرأت مرة هذه الكلمة:

إذا أخفق المزارع فالخسارة ضياع موسم زراعي، وإذا أخفق المصنع فالخسارة

ضياع حفنة من الدراهم، ولكن إذا أخفقت الجامعة فالخسارة ضياع الجيل، وفي

شعر مترجم لشاعر مسلم هندي أنثرها لكم، تتبين فيه خطورة انحراف الجامعة عن

دورها حيث يقول:» يا لبلادة فرعون الذي لم يصل تفكيره إلى تأسيس الكليات،

وقد كان ذلك أسهل طريقة لقتل الأولاد، ولو فعل ذلك لم يلحقه العار وسوء

الأحدوثة في التاريخ «. أجل فالكليات الجامعية قد تكون بفضل الله معبر الأمة إلى

حياة أفضل، وقد ترافقها بعض السلبيات فتحرفها عن منهجها، لتلقي بالجيل ومن

ورائه الأمة في مهامه الردى وسباسب الهلاك.

إن ثمن خطأ أحد ركاب القطار قد لا يدفعه إلا هو، أما إذا أخطأ قائد القطار

فالركاب وعربة البضائع سيواجهون الردى والعطب، وهكذا يكون حال المجتمع إذا

كثرت سلبيات الجامعة؛ لأن منزلة الجامعة من المجتمع تشبه من بعض الوجوه

وظيفة القائد للقطار الذي ينقل الناس إلى محطات الأمان والآمال.

ولعل من أخطر السلبيات التي تحاقبت مع نشأة المؤسسات الجامعية في العالم

الإسلامي، وتزامنت مع بداية نشاطها، أنها أخذت تمارس دورها تربية وتعليماً

منطلقة من الخلفية الثقافية الغربية التي ارتكزت عليها الجامعة في الغرب، يقول

بعض الباحثين العرب:» إننا في الواقع ورثة جامعات فرنسا وبولونيا « [15] .

ويقول الدكتور أكرم ضياء العمري الرئيس السابق لقسم الدراسات العليا في

الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية:

» نشأت معظم الجامعات في العالم العربي والإسلامي على أسس علمانية،

وذلك بحكم تسلط القوى الاستعمارية على العالم الإسلامي في وقت تكوينها، فطبعت

بطابع الحضارة الغربية، ونقلت إلى الطلاب نظريات العلماء الغربيين في حقول

الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس، نقلت إليهم على أنها مسلمات علمية وأنها العلم لا

سواها، وهكذا درس طلابنا ويدرسون «: سان سيمون - أوجست كونت -

دوركايم - ليني بريل - ديفيد هيوم - آدم سميث - هويز - هربرت سبنسر -

فرويد - ماركس - أنجلز - بافلوف - ديوي - برتراند راسل - هارولد لاسكي،

وكلهم ينطلق من أساس غير ديني في تفسير نشأة الخليقة والإنسان والمجتمع، وقد

لا يمر على مسامع الطلاب اسم الإسلام وأسماء علمائه [16] . أَمَا عَلِمَ جامعيونا أن

فقرنا أمام الفكر الغربي فقر معاصر، وأن نقلنا المباشر عنه في كثير من الأحيان

يصبح مهزلة فكرية. إذ إن ما نقلناه عنه جزء من أصيل تراثنا الذي نجهله جهلاً

مؤسياً [17] .

إن مثل هذه الأنهاج التعليمية قد أعطت الإسلام دوراً هامشياً في تكوين ثقافة

الجامعي، تاركة للطالب حرية التعاطي مع الدين، ومؤمنة له حق الولوج والخروج

منه متى شاء وكيف شاء، عاملة على تثبيت الازدواج في المعتقد والسلوك وإضفاء

الشرعية العلمية الغربية القائلة بقصر الدين على بعض النشاط الفردي دون أن

يكون له وجود أو دور فيما هو أبعد من ذلك.

ولقد كان الكثيرون من هؤلاء الخريجين من أمثال هذه الجامعات عقبة أمام

طلائع الصحوة الإسلامية لدفاعهم عن القيم الجامعية التي تلقوها والتي تتناقض

أحياناً مع عقيدة الأمة وهمومها.

ولكم سمعنا من جامعيين مرموقين وجامعات مرموقة كلمات مثل: هذا أمر

ديني وذاك مدني، أو علمي، أو نظامي، ولكل دائرته ودوره ودورته الحياتية،

وتأسس على مثل هذه المفاهيم الخطيرة، دعوة خاطئة وهي توجيه الجامعة إلى

توكيد التخصصية بكل وسيلة دون أن تفسح المجال للإسلام أن يشارك مشاركة فعالة؛ حماية لهذا التخصص من مزالق الخطأ، وحملاً على توظيفه توظيفاً لا يصطدم

مع المصالح العامة للأمة، هذه الدعوة إلى التخصص الأصم المبتور عن عقيدة

المجتمع وعن وحدة الثقافة تحصل في كثير من الجامعات العربية بالرغم من أن

رسالة الجامعة تقوم على وحدة المعرفة، على أساس أن المعرفة هي في الأساس

بنيان واحد متكامل من الحقائق المترابطة، كما يوجد في الغرب صوت يدعو إلى

توحد التخصصات وتوحيدها، بل توحيد روحها وجوهرها وأصولها في شخص

واحد، لإزالة التنافس، أو التعارض القائم بينها - لدى تفرقها في أفراد - هذا

التعارض الذي تدفع البشرية ثمناً له من أمنها واستقرارها، بل وحتى استمرارها.

وفي الولايات المتحدة أيضاً نجد جيمس كونانت رئيس جامعة هارفارد

1978 - 1983 م يلج بوابة التربية من عالم الكيمياء، ميدان تخصصه الدقيق،

ليترك منطلقاً من تخصصه الكيميائي مشاريع تربوية عملية تبنتها الحكومة

الأمريكية، ولقد كان في التطبيق الرسمي لآراء كونانت ردم للثغرة التي حدثت في

الثقافة الأمريكية عشية سبق روسيا لأمريكا في إطلاق أول قمر صناعي إلى الفضاء

عام 1975 م، فإذا تبين لنا أن هذين الباحثين وكثيرين غيرهم يدعون للتصالح بين

التخصصات لأمن الإنسان وراحته، فالتصالح بين العلم والإسلام لم يعد مطلباً

جمالياً، بل ضرورة يقتضيها تاريخ الأمة، وجغرافية الأفكار فيها؛ لأنه لا يمكن

للمثقف أن يحصر معلوماته في قضية واحدة من قضايا الفكر إذا أراد أن يبقى مثقفاً. والتخصص المعمق والثقافة الموسوعية من السمات البارزة في تاريخ العلم

الإسلامي، فابن حزم ترك عشرات المؤلفات في شتى موضوعات المعرفة،

وأثارت في عصرها وعصرنا ما تثيره الثقافة الحية في متلق واع، وابن خلدون في

مقدمته ليس بعيداً عن ابن حزم.

وإذا عبرنا إلى المشرق نجد لدى ابن تيمية مشروعاً ثقافياً متكاملاً لمواجهة

التآكل في عقل الأمة وثقافتها، والتراجع في عقيدتها، كما كان حضوره على جبهة

الفكر اليوناني بما كان يمثله من بريق بهر كثيراً من معاصريه، فلم يجد بداً من أن

يجابه هذا الإعصار اليوناني، فكتب الرد على المنطقيين، ودرء تعارض العقل

والنقل، وفي الساحة الثقافية الداخلية كتب العقيدة التدمرية والواسطية والإيمان،

وفي الفقه السياسي السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ونقد الفكر القائم

في عصره بكل موضوعية وتجرد، أشخاصاً وموضوعات. ولم يعان عقدة نقص

أو تمذهب متعصب، وسرت في كتاباته روح الوعي والإشفاق على الأمة حكاماً

ومحكومين، ومن يقلب صفحات الفتاوى يشعر أنه أمام عالم فقهي، ومصلح

اجتماعي، وفقيه لغوي، تعقب سيبويه وكتابه، وسجل عليه بعض الملاحظات،

وتتبع سائر المؤسسات القائمة في مجتمعه، فداخلها وحاورها باذلاً النصح

والإخلاص فيه، لقد كان أمة في ثقافته ودوره، كان في عصره بوصلة مجتمعه،

وبعد عصره تتجلى جهوده بمنهجه الذي خلفه وراءه، وتخرج به كوكبة من كبار

العلماء.

فلنقارن بين حضور ابن تيمية في حياتنا وفكرنا، والنهضة العربية المعاصرة

التي نبحث الآن عن خطوط البداية فيها.

إن المفاهيم النهضوية الغربية التي فرضت على الكثير من جامعاتنا جعلتنا

لنتوهم أننا قد أنتجنا نهضة حقيقية، لقد كنت أطالع في بعض المجلات المتخصصة

مقالاً عن النهضة العربية الحديثة، أفكارها ورجالها، فوجدت كاتب البحث ينتهي

إلى القول: وبعد مائتي عام من النهضة ما زلنا نقرأ أهم الكتابات عن مجتمعنا

وتاريخنا على يد المستشرقين، ومازلنا عاجزين عن إنتاج ما نستهلك [18] .

والجذر اللغوي للجامعة لا يباين الجذع الألسني للجامع، إذ بينهما في الاشتقاق

والدور غير وشيجة وأكئر من صلة، والجامعات الإسلامية التي تحدرت أصولها

من الجامع، ولدت تلبية لمطامح شرعية، واحتياجات اجتماعية وعقلية، وشكلت

خلال مراحل تطورها في أكثر الأحيان إنجازاً رائعاً، ولقد قامت هذه الجامعات في

العالم الإسلامي لتؤكد على أصالة الأمة، وتوثيق ارتباطها بماضيها الإسلامي المجيد، وتبني شخصيتها على هدي الكتاب الكريم والسنة المطهرة، فصارت أملاً يرتجى، ومطمعاً للخيرين. وجامعة الأزهر في مصر، والزيتونة في تونس خير مثالين

للجامعة القادمة من قيم المسجد الجامع ورسالته التربوية والتعليمية ولولا خشية

الإطالة لذكرت نماذج للأزهريين والزيتونيين الذين أدوا دوراً عظيماً في تحقيق

الترابط بين عقيدة الأمة وثقافتها وحاضرها ومستقبلها، ويكفي جامعة الزيتونة فخراً

أن تخرج رجلاً مثل عبد الحميد بن باديس 1889 -1940م الجزائري ليعود إلى

بلاده ليقود أمة ترزح تحت الفكر الغربي والكفر الفرنسي، فيؤلف ويحاضر

ويخطب ويناظر ويسافر في طول المغرب العربي وعرضه، حاملاً رسالة الإسلام

جاعلاً حياته كلها للإسلام، كما قال في أحد مذكراته، إن جهود ابن باديس بفضل

الله أثمرت رفض مسلمي الجزائر لفرنسا، وأشعلت الحرب ضد هذا الوجود الكافر.

إن ابن باديس والزيتونة مثال للجامعة والجامعي الذي يعرف موقعه ودوره في

نهضة أمته وخدمة عقيدته، في مثل هذه الجامعة ذات الأصول المسجدية.

يقول الله عز وجل: [ومَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ

مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]

[التوبة602] ، في هذه الآية يحث القرآن الكريم على طلب العلم بوصف النفرة

(فلولا نفر) ، وذلك يجعل العلم والجهاد في موقع واحد، كما أن سياق الآية وسياقها

يضع التعبئة الفكرية على قدم المساواة مع التعبئة العسكرية.

روى الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله

-صلى الله عليه وسلم- قال:» من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو ليعلمه كان

كالمجاهد في سبيل الله «.

ورضي الله عن عمر الفاروق القائل عن العلماء:» بذلوا أموالهم ودماءهم

دون هلكة العباد «.

ويرحم الله ابن القيم القائل: تبليغ سنته -صلى الله عليه وسلم- إلى الأمة

أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن الجهاد قد يستطيعه كل أحد أما العلم

فليس له إلا أهله.

وأخيراً:

لأن الجامعة تقوم في متن الوطن وتحيا هموم أهله، ولأنها تلامس وتعي

خصوصية محيطها وحاجاته، بات عليها أن تمتلك مشروعها الثقافي الذي لا

يستجيب لخصوصية اللحظة فحسب، وإنما يدفع بها كذلك في سياق البعد الإنساني

الأرحب والجامعة تستطيع ذلك، إذ لها من خبرتها وخبرة مدرسيها ما يسهم في

توفير انفتاح أكبر على المجتمع والدخول معه بوابات المستقبل، والجامعة عندما

تتنازل عن مشروعها بسبب بعض العقبات فذلك يعني التنازل العلمي عن الماضي

والحاضر والمستقبل.

وهناك عقبات داخل الجامعة وخارجها تحجم من دورها وتعمل على اختزاله

واختصاره منها:

1- غياب الصلة الأخلاقية والأبوية بين الطلاب والمدرسين في الغالب، مما

أدى إلى اهتزاز دور المدرس الجامعي الذي تشكل هذه العلاقة بينه وبين الطلاب

العمود الفقري في الحياة الجامعية.

2- الانفجار السكاني الذي دفع إلى الجامعة بأعداد من الطلاب أكبر من

طاقتها، وكثيراً ما يكون استقبالهم على حساب سمعة الجامعة ومكانتها، ولهذا يتعين

على الجامعة أن توازن بين حاجات السوق وأهدافها الاستراتيجية.

3- الاستفادة السلبية من الغطاء الجامعي من قبل بعض المدرسين للترويج

للفكر المضاد لثقافة الأمة وعقلها، والشعر الحداثي أوضح الأمثلة في هذا الميدان،

فهو نتاج بعض الجامعيين. قولاً ونقداً، هذا الشعر ألغى نفسه وفقد قراءه، وهو

في كثير من نصوصه ليس إلا إحياء للكهانة الوثنية تحت مسميات مختلفة، غير أن

أنكى ما في الأمر التغطية الجامعية له.

4- غياب الصلة بين الجامعة ومراكز البحث العلمي.

5- تواضع المكتبة الجامعية كماً وكيفاً ومساحة ومسافة وزمناً وعدم افتقار

البحث العلمي إلى التأصيل والدراسة المكتبية المعمقة.

إن الروح الجامعية لا تخالطنا وتلازمنا، لكوننا موجودين في الجامعة عمداء

ومدرسين وطلاباً، بل بكون الجامعة متلبسة فينا، قيماً خلقية، وموسوعية علمية،

ونهماً معرفياً، نرى اكتمالها في سعيها الدائم نحو الكمال.

إن الأمة التي ترسل إلى الجامعة بفلذات أكبادها، وجزء من دخلها، تفعل

ذلك واثقة من أن الجامعة سترد هذا العطاء عقولاً مؤهلة، وأرواحاً متوثبة لنقل

الأمة خانة أو أكثر في مراتب التقدم المنشود.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015