مجله البيان (صفحة 88)

وإذا قلتم فاعدلوا

بقلم: عبد العزيز بن ناصر السعد

أهمية الموضوع:

إن أهمية هذا الموضوع تأتي من أنه مفتاح الحق وجامع الكلمة، والمؤلف

بين القلوب، لأن من أقوى أسباب الاختلاف بين العباد هو الظلم والاعتداء وفقدان

العدل والإنصاف. ولو جاهد المسلم نفسه لتحقيق صفة العدل على نفسه ومع الناس

فإن كثيراً من المشاكل التي تحصل بين المسلمين سواء منها الفردية أو الجماعية

ستزول وتحل بإذن الله.

وذلك لأن سبب الانحراف عن الحق والإصرار على الأخطاء إما الجهل وإما

الظلم، فالجهل علاجه العلم، والظلم علاجه العدل والإنصاف والقسط. ولقد كان

شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كثيراً ما يرجع أسباب الفرقة والتعدي

والتعصب إلى الأمرين المذكورين سابقاً، فتراه يقول:

(الإنسان خلق ظلوماً جهولاً، فالأصل فيه عدم العلم، وميله إلى ما يهواه

من الشر، فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل في محبته وبغضه،

ورضاه وغضبه، وفعله وتركه، وإعطائه ومنعه، وأكله وشربه، ونومه ويقظته،

وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله، وعدل ينافي ظلمه، فإن لم

يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل؛ وإلا كان منه من الجهل والظلم ما

يخرج به من الصراط المستقيم، وقد قال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بعد

صلح الحديبية وبيعة الرضوان: [إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً] إلى قوله تعالى

[ويَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً] ، فإذا كان هذه حاله في آخر حياته أو قريباً منها فكيف

حال غيره) أهـ[1] .

ويقول رحمه الله:

(والعدل هو الاعتدال، والاعتدال هو صلاح القلب، كما أن الظلم فساده، ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالماً لنفسه، والظلم خلاف العدل، فلم يعدل على نفسه بل ظلمها، فصلاح القلب بالعدل، وفساده في الظلم، وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم والمظلوم، كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه، فمنه العمل، وعليه تعود ثمرة العمل من خير وشر، قال تعالى: [لَهَا مَا كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ] .

إلى أن قال في نفس الجزء ص 99:

(مع أن الاعتدال المحض السالم من الإخلاص لا سبيل إليه، لكن الأمثل

فالأمثل، فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم

والإعراض والعدل المحض في كل شيء متعذر علماً وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل. ولهذا يقال: هذا أمثل، ويقال للطريق السلفية: الطريقة المثلى.

وقال تعالى: [ولَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ] [الأنعام

152] وقال تعالى: [وأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا] ،

والله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط. وأعظم القسط عبادة

الله وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على ...

النفس. اهـ[2] .

وهنا نرى أن شيخ الإسلام قد بين أهمية العدل، وأنه أساس النجاة في الدنيا

والآخرة، وقد قسمه حسب الأهمية إلى أعظم العدل وهو عبادة الله وحده لا شريك

له، ثم العدل على الناس، ثم العدل على النفس وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في

ثنايا هذا البحث.

وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أيضاً أهمية العدل مع الخصوم

والمفارقين لأهل السنة حيث يقول:

(وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، ويتبعون

الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا يبتدعون، ومن اجتهد فأخطأ خطأً يعذره فيه

الرسول -صلى الله عليه وسلم- عذروه.. إلى أن قال: والله يحب الكلام بعلم

وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (القضاة ثلاثة. قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة، رجل قضى للناس على جهل

فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار، ورجل علم الحق

وقضى به فهو في الجنة) ، وقد حرم سبحانه وتعالى الكلام بلا علم مطلقاً، وخص

القول عليه بلا علم بالنهي؛ فقال تعالى: [ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ

والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] وقال تعالى: [قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ

الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ والإثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ

يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] وأمر بالعدل على أعداء

المسلمين فقال تعالى: [كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ

عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] [3] .

إذن مما سبق ذكره من كلام شيخ الإسلام يتبين لنا أهمية العدل في القول

والعمل وأن الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها

لا يستطيع أن يحملها الإنسان إلا بأن يتغلب على صفة الجهل بالعلم والتفقه في دين

الله عز وجل، وبأن يتغلب على صفة الظلم بالعدل والإنصاف، ومع ذلك - كما

أشار شيخ الإسلام - فلن يستطيع أن يكمل العدل كله ولا أن ينفك عن الجهل كله،

وكذلك فهو في حاجة لأن يتوب الله عليه ويغفر له تقصيره وضعفه، وهذا هو ما

يفهم من آية الأمانة في سورة الأحزاب حيث ذكر الله عز وجل لنا صنفين من

الناس:

الصنف الأول: المؤمنون الذين بذلوا جهدهم في طلب العلم المنافي للجهل،

والعدل المنافي للظلم، فاستحقوا من الله عز وجل أن يتوب عليهم ما لم يستطيعوا

تحقيقه من العلم والعدل.

الصنف الثانى: أولئك المشركون المنافقون الذين أعرضوا عن دين الله

عز وجل فلم يتعلموه، وأعرضوا عن العدل والقسط فأركسوا في ظلمات الجهل والظلم، ووقعوا في الشرك والنفاق فاستحقوا العذاب الأليم. يقول الله تعالى: [إنَّاعَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنَافِقِينَ والْمُنَافِقَاتِ والْمُشْرِكِينَ والْمُشْرِكَاتِ ويَتُوبَ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ وكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً] [سورة الأحزاب: 72 - 73] .

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين أعانهم على حمل الأمانة وغفر لهم

تقصيرهم.

تعريف العدل ومنزلته في الكتاب والسنة:

قال في لسان العرب: العدل: ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد

الجور. عدل الحاكم في الحكم يعدل عدلاً، وهو عادل من قوم عدول.. وفي أسماء

الله الحسنى (العدل) وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم. والعدل: الحكم

بالحق. وكتب عبد الملك إلى سعيد بن جبير يسأله عن العدل فأجابه: إن العدل

على أربع أنحاء: العدل في الحكم، قال الله تعالى: [وإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم

بِالْقِسْطِ] ، والعدل في القول؛ قال تعالى: [وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا] ، والعدل في

الفدية؛ قال تعالى: [لا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ] ، والعدل في الإشراك؛ قال تعالى:

[ثُمَّ الَذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ] ، أي: يشركون. وفلان يعدل فلاناً: أي يساويه،

وعدّل الموازين والمكاييل: ساواها، وتعديل الشيء: تقويمه، والاعتدال:

توسط حال بين حالين في كم وكيف، كقولهم: جسم معتدل، من الطول والقصر، وجو معتدل، من الحر والبرد.. الخ، والمعادلة. الشك في أمرين، يقال: أنا في عدال في هذا الأمر، أي: في شك منه أأمضي عليه أم أتركه. أهـ

(باختصار) .

والآيات والأحاديث الواردة في ذكر العدل والحث عليه والتحذير من ضده كثيرة جداً لكننا نقتصر على بعضها مع نقل أقوال علماء التفسير والحديث حولها.

الآيات الواردة في ذلك:

الآية الأولى:

يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ

والْمَلائِكَةُ وأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] [ال عمران 18] .

* يعلق شيخ الإسلام على قوله تعالى [قَائِماً بِالْقِسْطِ] ج 14 ص 179بقوله:

(فإن الاستقامة والاعتدال متلازمان، فمن كان قوله وعمله بالقسط كان ...

مستقيماً، ومن كان قوله وعمله مستقيماً كان قائماً بالقسط، ولهذا أمرنا الله عز وجل أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وصراطهم هو العدل والميزان ليقوم الناس بالقسط والصراط المستقيم هو العمل بطاعته وترك معاصيه، ... فالمعاصي كلها ظلم مناقض للعدل مخالف للقيام بالقسط والعدل) [4] . ... * ويعلق سيد قطب - رحمه الله - على هذه الآية في ظلال القرآن المجلد

الأول ص 55 بقوله:

(وتدبير الله عز وجل لهذا الكون والحياة متلبس دائماً بالقسط وهو العدل،

فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون التي

يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر.. لا يتحقق هذا

إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس وبينه في كتابه وإلا فلا عدل ولا قسط

ولا استقامة ولا تناسق ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان، وهو الظلم إذن

والتصادم والتشتت والصراع) .

إلى أن قال - رحمه الله - في الصفحة نفسها (وأنه حيث حكم في حياة الناس منهج آخر من وضع البشر لازمه جهل البشر وقصور البشر، كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور. ظلم الفرد للجماعة، أو ظلم الجماعة للفرد، أو ظلم طبقة لطبقة أو ظلم أمة لأمة أو جيل لجيل. وعدل الله عز وجل وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء، وهو إله جميع العباد، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء [لا إلَهَ إلاَّ هُوَ العَزِيزُ

الحَكِيمُ] . اهـ[5] .

الآية الثانية:

قوله عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ

عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا

الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً] [سورة

النساء: 135] .

يقول الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (يأمر تعالى عباده المؤمنين أن

يكونوا قوامين بالقسط، أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم

في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين

متعاضدين متناصرين، يقول: (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) كما قال تعالى: [وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ] ، أي: أدوها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً، خالية من

التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال: [ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ] ، أي: اشهد بالحق

ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عاد ضرره عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه، وقوله: [أَوِ

الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ] ، أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تراعهم

فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد الضرر عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد.

وقوله: [إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا] ، أي: لا ترعاه لغناه، ولا

تشفق عليه لفقره، فالله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما.

وقوله: [فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا] ، أي: لا يحملنكم الهوى والمعصية

وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على

أي حال كان كما قال تعالى: [ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ

أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ، ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه الرسول -صلى الله

عليه وسلم- على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه

ليرفق بهم فقال: والله لقد جئتكم من أحب الخلق إليَّ ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم

من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم،

فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض) اهـ[6] .

ويعلق سيد قطب (549/2) على الآية نفسها بقوله: (إنها أمانة القيام بالقسط

على إطلاقه في كل حال وفي كل مجال. القسط الذي يمنع البغي والظلم في

الأرض، والذي يكفل العدل بين الناس، والذي يعطي كل ذي حق حقه، من

المسلمين وغير المسلمين، وفى هذا الحق يتساوى عند الله عز وجل المؤمنون

وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأعداء والأصدقاء،

والأغنياء والفقراء..

والمنهج الرباني يجند النفس في وجه ذاتها وفي وجه عواطفها تجاه ذاتها أولاً

[ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ] وتجاه الوالدين والأقربين ثانياً، وهي محاولة شاقة أشق بكثير

من نطقها باللسان ... ) إلى أن قال: (ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها

الفطرية.. أو الاجتماعية حين يكون المقصود له أو عليه فقيراً تشفق النفس من

شهادة الحق ضده، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه. أو من يكون فقره مدعاة

للشهادة ضده بحكم الرواسب الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية،

وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته أو قد

يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده..

الآية الثالثة:

قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا

يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ

بِمَا تَعْمَلُونَ] [سورة المائدة: 8] .

يعلق سيد قطب - رحمه الله - على هذه الآية بقوله:

(لقد نهى الله عز وجل الذين آمنوا قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن

المسجد الحرام على الاعتداء، وكانت هذه قمة ضبط النفس والسماحة، يرفعهم الله

إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم، وهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن

يميلوا عن العدل، وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق، فهي مرحلة

وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده، تتجاوز إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره

والبغض..) إلى أن قال - رحمه الله تعالى -: (إن النفس البشرية لا ترتقي هذا

المرتقى قط إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله عز وجل حين تقوم لله

متجردة عن كل ما عداه، وحين تستشعر تقواه وتحسُّ أن عينه على خفايا الضمير

وذات الصدور) اهـ باختصار [7] .

الآية الرابعة:

قوله تعالى: [وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] [الأنعام: 152] .

يعلق سيد قطب - رحمه الله - على هذه الآية فيقول:

(وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري - وقد ربطه بالله ابتداءً - إلى مستوى

سامق رفيع على هدى من العقيدة في الله ومراقبته.. فهنا مزلة من مزلات الضعف

البشري، الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكافل

والامتداد، بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل وفى قوة القرابة سند لضعفه وفى

سعة رقعتها كمال لوجوده، وإن امتدادها جيلاً بعد جيل حماية لامتداده، ومن ثم

يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم أو القضاء بينهم

وبين الناس، وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة

الحق والعدل على هدى من الاعتصام بالله وحده، ومراقبة الله وحده، إكتفاءً به من

مناجزة ذوي القربى وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه وهو سبحانه أقرب

إلى المرء من حبل الوريد) اهـ[8] .

أما الأحاديث الواردة في الحث على العدل وتجنب الظلم والبغي فكثيرة جداً

نقتصر على بعضها:

الحديث الأول:

ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - أنه قال:

(نحلني أبي نحلاً، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: أكل ولدك

نحلت مثله؟ فقال: لا. فقال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، وقال: إني لا أشهد

على جور. قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة [9]

الحديث الثاني:

روى البخاري عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -

صلى الله عليه وسلم-: (كل سُلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع

فيه الشمس، يعدل بين اثنين صدقة) [10] .

الحديث الثالث:

ثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: (بايعنا

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في: العسر واليسر،

والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن

نقول الحق أينما كان، لا نخاف في الله لومة لائم) وزاد النسائى: (وعلى أن نقول

بالعدل أين كنا) [11] .

الحديث الرابع:

روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -

صلى الله عليه وسلم -: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور على ... يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما

ولوا) [12] .

الحديث الخامس:

روى النسائي والحاكم في مستدركه عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه -

قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو بهذا الدعاء: (اللهم بعلمك

الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت

الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق

والعدل في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا

ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد

الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك، في غير ضراء

مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين) [13] .

أقسام العدل:

ينقسم العدل حسب متعلقاته إلى الأقسام التالية:

1-أعظم العدل:

وهو توحيد الله عز وجل لا شريك له، وهو الحق الذي قامت به السموات

والأرض، ومن أجله خلق الله الخلق، قال الله عز وجل: [ومَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ

والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ]

[الدخان: 38 - 39] . وقال تعالى: [مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إلاَّ

بِالْحَقِّ وأَجَلٍ مُّسَمًّى والَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ] [الأحقاف: 3] .

ويقابل هذا القسم من العدل: أعظم الظلم، وهو الإشراك بالله عز وجل،

والكفر به، حيث قال الله عز وجل: [وإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا

تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [لقمان: 13] . ومثله قول الله تعالى: [الَذِينَ

آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 82] .

وقوله تعالى: [والْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [سورة البقرة: 254] .

2 -العدل مع النفس:

ويدخل في هذا العدل: قيامه بالأمانة التي كلفه الله عز وجل بها، وذلك فيما

بين العبد وربه من الالتزام بأوامره واجتناب نواهيه من غير إفراط ولا تفريط،

ويقابل هذا القسم من العدل: ظلم العبد لنفسه بارتكابه ما حرم الله عز وجل - مما

هو دون الشرك -، أو تركه ما أمر الله عز وجل مما يتعلق به نفسه، ولا يتعدى

إلى غيره، وهذا النوع من الظلم من أخف أنواع الظلم؛ حيث إن صاحبه قد يتوب

منه فيتوب الله عليه، ولو مات عنه بدون توبة فإنه تحت المشيئة، بينما الظلم

العظيم - وهو الشرك بالله - لو مات عليه فلن يغفر الله له، كما قال تعالى: [إنَّ

اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ] [النساء: 48] . وهو

أخف من ظلم العباد؛ لأنه يشترط في التوبة من ظلم العباد رد الحقوق إلى أهلها

واستباحتهم منها.

3-العدل مع العباد:

وهذا النوع من العدل هو الذي يهمنا في هذا البحث، والقسمان السابقان ليس

هنا موضع تفصيلهما، ويقابل هذا القسم من العدل ظلم العباد واعتداء بعضهم على

بعض، سواء في القول أو الفعل، وسنذكر في هذا القسم - إن شاء الله - بعض

مقتضيات ولوازم هذا العدل، مع الإشارة في أثناء ذلك إلى بعض المواقف المؤسفة

التي تنافي العدل والإنصاف، مع ذكر المنهج الشرعيّ الذي ينبغي سلوكه حيال هذه

المواقف.

ويحسن بنا قبل ذكر هذه اللوازم أن نقدم لها بكلام نفيس للإمام ابن القيم -

رحمه الله - في مدارج السالكين حول (منزلة الخلق) . يقول - رحمه الله -:

(وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها:

الصبر، العفة، الشجاعة، العدل.

فالصبر: يحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وعدم الطيش والعجلة.

والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على

الحياء، وهو رأس كل خير، وتمنعه من: الفحشاء، والبخل، والكذب، والغيبة،

والنميمة.

والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى

البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته،

وتحمله على كظم الغيظ والحلم. فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها

بلجامها عن النزع والبطش. كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس الشديد

بالصرعة، إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب) ، وهو حقيقة الشجاعة،

وهو ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.

والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط

والتفريط، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقِحة،

وعلى خلق الشجاعة، الذي هو التوسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي

هو التوسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس. ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من

هذه الأربعة.

ومنشأ جميع الأخلاق السافلة، وبناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم،

والشهوة، والغضب.

فالجهل: يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن. والكمال

نقصاً والنقص كمالاً.

والظلم: يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع

الرضى، ويرضى في موضع الغضب، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في

موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في

موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع.

والشهوة. تحمله على الحرص والشح والبخل، وعدم العفة والنَّهمة والجشع،

والذل والدناءات كلها.

والغضب: يحمله على الكبر والحقد والحسد، والعدوان والسَفَه.

ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق: أخلاق مذمومة. وملاك هذه

الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة فيتولد في إفراطها

في الضعف: المهانة والبخل، والخسة واللؤم، والذل والحرص، والشح وسفساف

الأمور والأخلاق.

ويتولد من إفراطها في القوة الظلم والغضب والحدة، والفحش والطيش.

ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غيَّة كثيرون. فإن النفس قد تجمع

قوة وضعفاً. فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قهر، ظالم عنوف

جبار، فإذا قهر صار أذل من امرأة: جبان عن القويّ، جريء على الضعيف.

فالأخلاق الذميمة: يولد بعضها بعضاً، كما أن الأخلاق الحميدة: يولد بعضها بعضاً.

وكل خلق محمود مكتنفٌ بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما. وطرفاه خلقان

ذميمان، كالجود: الذي يكتنفه خلقا: البخل والتبذير. التواضع: الذي يكتنفه خلقا: الذل والمهانة والكبر والعلو [14] .

*يتبع *

طور بواسطة نورين ميديا © 2015