دفاع البوطي
عن دعاة وحدة الوجود
عبد القادر حامد
سننقل للقارئ حاشية طويلة من حواشي البوطي، لما تمثله من تلخيص جيد
لمنهجه العلمي، وما تشتمل عليه من مميزاته التي أشرنا إليها في ثنايا ما كتبناه
سابقاً، وهذه الحاشية دفاع منه عن ابن عربي، وهجوم (سماه هو دفاعاً) على ابن
تيمية وعلى من يقلده وينهج نهجه، وسنرد على بعض ما جاء في هذه الحاشية،
ولن نلزم القارئ بشيء، ولن نلح عليه بتصديق ما نقول، وإلا فهو غير «محرر
قلبه من شوائب العصبيات والأهواء» !
إن صاحب المنهج الحق لا يستجدي موافقة الآخرين وتصديقهم له؛ فإن فعلوا
فهم على الحق، وقلوبهم متحررة من شوائب الأهواء والعصبيات وإن لم يفعلوا
كانوا عكس ذلك. إنه يبين منهجه، ويقول كلمته، ويفصل بحججه ما وسعه
التفصيل، ويثق بعقول قرائه دون وصاية أو إغراء أو تحذير.
يقول البوطي في صدد دفاعه عن القائلين بوحدة الوجود وتشنيعه على من
ينتقدهم:
« ... وخلاصة المشكلة أنه (أي ابن تيمية) ومن يقلده في نهجه يظلّون
يأخذون ابن عربي وأمثاله بلازم أقوالهم، دون أن يحملوا أنفسهم على التأكيد من
أنهم يعتقدون فعلاً ذلك اللازم الذي تصوروه.
أما أن يكون في كتب ابن عربي كلام يخالف العقيدة الصحيحة ويستوجب
الكفر، فهذا ما لا ريبة ولا نقاش فيه. وأمّا أن يدلّ ذلك دلالة قاطعة على أن ابن
عربي كافر، وأنه ينطلق في فهم (شهود الذات الإلهية) ، من أصل كفري هو
نظرية الفيض، فهذا ما لا يملك ابن تيمية ولا غيره أي دليل قاطع عليه. فإن كتب
ابن عربي تفيض بالبيانات المفصلة المكررة التي تناقض هذا الأصل الكفري. هذا
بالإضافة إلى أنه قد بات معلوماً ومؤكداً أن طائفة معلومة من الزنادقة الباطنية دسوّا
ما شاؤوا أن يدسوّا في كتبه. ذكر ذلك المقري في (نفح الطيب) ، وأكده ابن عماد
في (شذرات الذهب) ، وأكده في قصة طويلة الإمام الشعراني في (اليواقيت
والجواهر) ، وذكره الحاجي خليفة في (كشف الظنون) ، ولا نشك في أن ابن تيمية
ينبغي أن يكون في مقدمة من يعلم ذلك.
ولست في هذا منطلقاً من عصبية لابن عربي أو غيره. بل إن الميزان
الوحيد عندي في ذلك هو القاعدة الشرعية التي يجب اتباعها عند الإقدام على تكفير
أناس أو تضليلهم، وهي قاعدة معروفة لأهل العلم جميعاً وفي مقدمتهم ابن تيمية -
رحمه الله -.
ولقد حكّمت هذه القاعدة في حق ابن تيمية، قبل تحكيمها في حق ابن عربي،
فلقد نقلت فقرات من كلامه الذي يتضمن إقرار الفلاسفة في اعتقادهم بالقدم النوعي
للمادة، وبوجود قوة طبيعية مودعة في الأشياء بها تحقق فاعلياتها وتأثيراتها، بل
يتضمن الدفاع عنهم، في ذلك ودعوى أنه الحق الذي لا محيض عنه. وقد ثبت
للعلماء جميعاً أن الفلاسفة اليونانيين وقعوا في الكفر لثلاثة أسباب، في مقدمتها،
قولهم بالقدم النوعي للعالم. ولا يرتاب مسلم أن الكفر بدعوى قدم العالم، أو بدعوى
وجود قوة مودعة في الأشياء بها يتم التأثير، ليس أقل خطورة وجلاء من الكفر
الذي تتضمنه عبارات واردة في كلام ابن عربي.
ولكنا مع ذلك لم نجنح، لهذا السبب، إلى تكفير ابن تيميه ولا إلى تضليله،
بل انطلقنا إلى النظر في ذلك من تحكيم القواعد الشرعية ذاتها، فلقد لاحظنا الأمر
ذاته الذي لاحظناه في كتب الشيخ ابن عربي -رحمه الله- إذ رأينا لابن تيمية كلاماً
آخر في أكثر من موضع يناقض كلامه الباطل الذي أيّد فيه الفلاسفة في ضلالهم
الذي كان سبباً من أسباب كفرهما، بحيث لو أردنا أن نردّ على ابن تيمية هذا
الباطل الذي تورط فيه، لما وجدنا كلاماً نرد به عليه، خيراً من كلام ابن تيمية
ذاته الذي كرره في عدة مناسبات أخرى.
فاقتضانا ذلك أن نَعْرِفَهُ بالحق الذي تكرر في كتبه وكلامه، لا أن ننعته
بمقتضى الكلمات الباطلة التي دار بها قلمه أو تحرك بها مرة لسانه. ومهما كان
السبيل إلى حسن الظن بأهل القبلة ميسراً، فهو الواجب الذي لا محيد عنه، وما
أيسر أن تزاح العبارات المشكلة عن السبيل إلى ذلك بأنواع من التأويل والاحتمال.
وإذا كان لابد من تأويل العبارات الباطلة لتتحول إلى حق فنحافظ بذلك على حسن
ظننا بصاحبها، أو من تأويل كلامه الحق ليتحول إلى باطل، فنجعله معتمدنا في
إساءة الظن به، فإن مما لا يرتاب فيه المسلمون قط أن الواجب هو تأويل الباطل
بما يتفق مع الحق الذي عرف الرجل به لا العكس. لأن حسن الظن هو الأمثل
بحال الرجل الصادق في إسلامه، وهو الذي يقضي به قول الله عز وجل:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ] [الحجرات: 12] .
وإذا أبى ابن تيمية -رحمه الله- إلا أن يحملنا على تكفير ابن عربي استدلالاً
بالكفريات الموجودة في كلامه، والإعراض عن الصفحات الطوال التي تناقضها
وتردّ عليها في مختلف كتبه وأقواله، فإنها لدعوة منه بلا ريب إلى أن نكفره هو
الآخر استدلالاً بالضلالات الفلسفية التي انزلق فيها، وأن نعرض عن كلامه الآخر
الذي يناقضها ويبرئه من مغبتها. ولكني أشهد أن دين الله عز وجل يأبى أن ندعو
بهذه الدعوة، كما أنه يحذر من الانصياع لها.
ولعل كل متدبر للحق، محررٍ قلبه من شوائب العصبيات والأهواء، لا يعجز
عن تصديق ما أقول، وعن اليقين بأنه المتفق مع كتاب الله، والمنسجم مع هدي
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» [كتابه ص 204، 205، 206] .
القول ولازم القول:
يبدأ البوطي موهماً باستخدام بعض عبارات العلماء، فيشير إلى القول ولازم
القول، ولكن لا يوضح لقرائه - وهم بحاجة إلى ذلك - القول ولازم القول؟ حتى
نعلم: أصحيح أن ابن تيمية - ودعك ممن يقلده في نهجه - يأخذ ابن عربي وأمثاله
بلازم أقوالهم، دون أن يحمل نفسه على التأكد من أنهم يعتقدون فعلاً ذلك اللازم؟
معنى هذا أنه ليس في كتب ابن عربي ما يدل دلالة واضحة على هذا الذي
أُخذ عليه، وإنما هي تخرصات تخرصها ابن تيمية عليه، لكن هذا الزعم ينقضه
البوطي نفسه في عبارته التالية مباشرة:
«أما أن يكون في كتب ابن عربي كلام كثير يخالف العقيدة الصحيحة
ويستوجب الكفر، فهذا ما لا ريبة ولا نقاش فيه» .
هذا طرف المعادلة الأول! وطرفها الثاني هو: «وأما أن يدل ذلك دلالة
قاطعة على أن ابن عربي كافر وأنه ينطلق في فهم (شهود الذات الإلهية) من أصل
كفري هو نظرية الفيض، فهذا ما لا يملك ابن تيمية ولا غيره أي دليل قاطع عليه» ... ما دليل البوطي على فقدان ابن تيمية وغيره الدليل عليه؟ ! دليله ما يلي: «فإن كتب ابن عربي تفيض بالبيانات المفصلة! المكررة! (كما نقول نحن اليوم: الإحصائيات المفصلة!) التي تناقض هذا الأصل الكفري» .
ودليل آخر:
«وهذا بالإضافة إلى أنه قد بات معلوماً ومؤكداً (لا نقاش في هذا المعلوم
والمؤكد الذي كأنه معلوم من الدين بالضرورة عند الشيخ!) أن طائفة معلومة (!)
من الزنادقة الباطنية دسوا ما شاؤوا أن يدسوا في كتبه (ما أسهل الدس في كتب
المشبوهين!) . من ذكر ذلك؟ ذكره صاحب (نفح الطيب) ! وأكده صاحب
شذرات الذهب! وأكده في قصة طويلة! الإمام الشعراني، (لماذا الشعراني إمام؛
والمقَّري وابن عماد ليسا إمامين؟ !) وأين أكده الإمام الشعراني؟ في (اليواقيت
والجواهر) ، وذكره الحاجي [1] خليفة في (كشف الظنون) ، بل وقاصمة الظهر أن
ابن تيمية في مقدمة من يعلم أن تزويراً ودساً حصل في كتب ابن عربي، (وهذا لا
يشك فيه البوطي!) لكن ما الذي يمنع ابن تيمية من الاعتراف بهذا الذي لا يشك
فيه البوطي؟ ! ليس غير حبه للتجني على غيره، وكتمان الحق المعلوم، والتشبت
بالتخرصات التي لا دليل عليها؛ أو شيئاً في معنى هذا!
ذكر الشيخ البوطي أسماء كل من صاحب» نفح الطيب «وصاحب
» شذرات الذهب «وصاحب» اليواقيت والجواهر «وصاحب» كشف الظنون «
فيمن أكد الدس في كتب ابن عربي، ووجدنا - لدى رجوعنا إلى ترجمة ابن عربي
في نفح الطيب، الذي يعتبره الشيخ البوطي مصدراً يرجع إليه في هذا المجال - ما
يلي:
» ومما نسبه إليه - رحمه الله تعالى - غير واحد قوله:
قلبي قطبي وقالبي أجفاني ... سري خَضِري وعينه عرفاني
روحي هارون وكليمي موسى ... نفسي فرعون والهوى هاماني
وذكر بعض الثقات أن هذين البيتين يكتبان لمن به القولنج في كفه ويلحسهما
فإنه يبرأ بإذن الله تعالى قال: قال وهو من المجربات! وقد تأول بعض العلماء
قول الشيخ -رحمه الله تعالى- بإيمان فرعون النفس، بدليل ما سبق، وحكى في
ذلك حكاية عن بعض الأولياء ممن كان ينتصر للشيخ -رحمه الله تعالى- «. [نفح
الطيب 2/372-1373]
وقد عثرنا في نفح الطيب على غير هذه الطرفة مما لا نستطيع أن ننقله هنا
لما فيه من نبو عن كل ذوق، فليُرْجَع إليه في الجزء 2/383 من نفح الطيب،
وتبين لنا مما ينقله هذه المؤلف أنه لا يصح أن يعتمد قوله في هذه المسألة لأنه ناقل
عن الشعراني فلا يصح أن يقال: ذكر ذلك المقري وذكره في قصة طويلة الإمام
الشعراني، فما عند المقري حول ابن عربي مصدره الشعراني وغيره من المخرفين.
أما الشعراني فشهادته في ابن عربي لا تقبل لأن ما يقال في منهج ابن عربي
يقال في منهجه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهو متأخر عن ابن عربي، فبين
وفاتيهما حوالي 335 سنة فهل نتعلق بالشعراني ونذر مؤرخاً ثقة كالذهبي مثلاً؟ !
يقول الذهبي في ابن عربي:
» ومن أردأ تواليفه كتاب «الفصوص» فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا
كفر - نسأل الله العفو والنجاة، فواغوثاه بالله! وقد عظمه جماعة وتكلفوا لما صدر
عنه ببعيد الاحتمالات، وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخنا أنه سمع الشيخ عز
الدين بن عبد السلام يقول عن ابن عربي: شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم، لا
يحرم فرجاً.
قلت: (أي الذهبي) : إن كان محي الدين رجع عن مقالاته تلك قبل الموت فقد
فاز، وما ذلك على الله بعزيز «.
ونحن هنا لا نحقق بل نشير فقط إلى أولية من أوليات البحث العلمي وهي:
إذا أردنا اعتبار آراء في شخصية ما فأول ما يجب أن ننظر فيه مدى قرب هذه
الآراء من حيث الزمن من الشخصية المتناوَلة، ثم مدى وثاقتها وذلك بمعرفة درجة
أصحابها وقيمة آرائهم في ميزان العلم، فلا نقبل مثلاً بتزكية صاحب بدعة لرأس
في بدعته، كما يرفض رأي المتحامل فيمن عرف بالتحامل عليه، فلا بد من النظر
في الجذور، وفي أقوال أهل العدالة والضبط ممن لا تعنيهم الأسماء أيا كانت، بل
يعنيهم الحق ويدورون معه حيث دار.
وقد كان على الشيخ البوطي - حفظه الله - قبل أن يشير إلى صاحب نفح
الطيب وصاحب شذرات الذهب وصاحب اليواقيت والجواهر، وصاحب كشف
الظنون أن يذكر لنا رأي ابن عبد السلام، وابن دقيق العيد، والذهبي، وابن حجر، ولا عليه بعدها أن لا يتعرض لابن تيمية من قريب ولا من بعيد، لماذا لم يفعل
ذلك؟ هل يتمذهب هؤلاء النفر الكرام بالسلفية التي اعتبرها بدعة طارئة تمزق
وحدة المسلمين؛ وتقف حجر عثرة أمام المد الإسلامي؟ !
ثم إنه يفهم من هذه الحاشية أنه يعتقد أن ابن تيمية يكفر ابن عربي، اعتماداً
منه على رأيه في هجوم ابن تيمية على تكفير العلماء لأدنى شبهة، وقد بينا خطأ
هذا الرأي في المقالة السابقة وأن ابن تيمية من أكثر الناس احتياطاً ودقة في هذا
المجال، ولعل الذي يدفع البوطي إلى هذا الاعتقاد عدم تفريقه بين قول: هذا القول
لفلان كفر أو فيه كفر، والقول بأن فلاناً كافر.
إن القول الذي هو في نفسه كفر؛ أو المؤدي إلى الكفر ينبغي أن يبين غاية
التبيين، ويحذر منه أشد التحذير -وهذا ما يفعله ابن تيمية عادة في نكيره على هذه
الأقوال ومناصريها، وذلك أنه يرنو من خلال كل كتاباته وآثاره إلى قضية جوهرية
هي الجانب العملي من الفكر الإسلامي، والبعد عن الترف الفكري، والخوض فيما
لا فائدة منه، والدفاع عن عقائد الإسلام وأحكامه ضد المؤثرات الدخيلة الضارة،
ووضع المسلمين على الجادة الصحيحة التي يفهمون فيها دورهم، ويدركون ما
اختصوا به من دون الأمم. وعلى هذا ينبغي أن يفهم إنكاره التالي على القائلين
بوحدة الوجود، وعلى من يلتمس الأعذار لهم:
» وأما من قال: لكلامهم تأويل يوافق الشريعة فإنه من رؤوسهم وأئمتهم،
فإنه إن كان ذكياً فإنه يُعَرَّف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقداً لهذا باطناً
وظاهراً فهو أكفر من اليهود والنصارى.
فمن لم يُكَفِّر هؤلاء وجعل لكلامهم تأويلاً كان عن تكفير النصارى بالتثليث
والاتحاد أبعد «. [مجموع الفتاوى 2/133]
أما عن ابن عربي بالذات فيقول:» مقالة ابن عربي في فصوص الحكم:
وهي مع كونها كفراً فهو أقربهم إلى الإسلام؛ لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد
كثيراً ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما
هو قائم مع خياله الواسع، الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى والله أعلم بما
مات عليه «. [مجموع الفتاوى 2/142] .
فانظر كيف يفرق بين المقالة وبين صاحبها، وكيف ينصفه فينسب إليه كثرة
الجيد في كلامه، وبأنه لا يثبت على الاتحاد مثل غيره من القائلين بوحدة الوجود،
وكيف أنه لا يغمطه حقه ولا، يهضمه مميزاته التي امتاز بها كسعة الخيال، وكيف
يجوز أنه قد يكون تاب من أقواله المنكرة تلك.
أوهام على قواعد وهمية:
إن الشيخ فيما يكتب لا يرمي إلى دفاع عن هذا العالم أو ذاك، وليس هو
بصدد الإحسان إلى الغزالي أو ابن حزم أو ابن عربي؛ إنما يرمي إلى هدف محدود
جداً يعرفه كل من تصفح كتابه هذا، وهو الهجوم على قوم خطَّؤوه وعقبوا على
قول أو أقوال له، وقد اشتهروا بأشياء، فهو يظن أنه إذا تتبع هذه الأشياء وحاول
أن يهوِّن من شأنها سيصيب ضالته، وهي إخماد صوت هؤلاء وتشويه صورتهم،
فتراه يعنِّي نفسه هذا العناء، ويخوض مخاضات تكشف دعاواه، وهو لا يحاول أن
ينجو من واحدة إلا ويرمي نفسه في أخرى، هدانا الله وإياه.
لو كان يرمي إلى تجلية شبهات، والرد على أخطاء، والدفاع الصحيح عمن
يدعي الغيرة عليهم والغضب لهم لكان هناك طريق آخر لذلك يتمثل في تحديد
القضية المختلف عليها، وإزالة الإبهام عنها عن طريق نقل آراء كل من الفريقين
فيها، ومناقشة كلام كل منهما» حسب منهج المعرفة وقواعد تفسير النصوص «
التي دندن بها كثيراً في كتابه، ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل.
والعجيب منه أنه يوهمك أنه ينطلق في أحكامه هذه من قواعد؛ حيث لا
قواعد! ويضع نفسه في مكان القاضي الذي يمسك بالميزان الذي يزن به ابن تيمية
مرة؛ وابن عربي مرة، أسمعه يقول:
» ولقد حكمت هذه القاعدة في حق ابن تيمية، قبل تحكيمها في حق ابن
عربي «ما هذه القاعدة الشرعية؟ وهل مر لها ذكر؟ ! وبناء على هذه القاعدة
الوهمية يرى أن ابن تيمية يقر الفلاسفة في اعتقادهم بالقدم النوعي للمادة (وقد تبين
لنا مبلغ هذه الدعوى من الصحة في المقال السابق) ثم يؤكد بصلافة أن ما توصل
إليه؛ مما يحلو له أن يلصقه بابن تيمية ليس أقل خطورة وجلاءً من الكفر الذي
تتضمنه عبارات واردة في كلا ابن عربي! لماذا هذا التعسف كله؟ هل يريد أن
يأخذ ابن تيمية رهينة؛ فيهدده بالكفر والتضليل إن لم يقلع أتباعه عن القول بابن
عربي ما يقولون؟ ! هذا ما تدل عليه حاشيته.
لكنه يحاول أن يظهر للقارئ شيئاً من الفروسية والعفو عند المقدرة، وإن
شئت فشيئاً من الورع عن التقحم بالقول بلا علم، وذلك حين ينكص عن التكفير
والتضليل تبعاً للقاعدة أو القواعد الشرعية الموهومة التي حكمها فتراه يقول:
(ولكنا مع ذلك لم نجنح، لهذا السبب (لا ندري أي سبب؟ !) إلى تكفير ابن تيمية
ولا إلى تضليله، بل انطلقنا إلى النظر في ذلك من تحكيم القواعد الشرعية ذاتها!
(ليلاحظ القارئ أنها كانت قاعدة، ثم فرخت فأصبحت قواعد! وليحل بنفسه هذه
الأحجية، بل هذه المعجزة، ولا يستغرب كيف تصبح القاعدة قواعد؛ فلعل هذا
التكاثر حدث بانشطار الخلايا! ولا ينسى المعجزة الكبرى، وهي أن القاعدة
الشرعية الأولى لا وجود لها؛ ومع ذلك فقد ولدت قواعد! من قال إن أدب
اللامعقول لم يترك في الفكر الإسلامي الحديث بصمات؟ !)
تسوية:
إن البوطي يحس بالمشكلة التي تحيط بالمقلدين الذين ربطوا أنفسهم
بالأشخاص، فأصبحوا أسرى لكل ما يصدر عن هؤلاء الأشخاص، فبينما يحاول
جاهداً أن يضع بين يديك منهجاً يعصمك من الخطأ، ويعترف انطلاقاً - من منهجه
هو - أن في كتب ابن عربي كلاماً كثيراً يخالف العقيدة الصحيحة ويستوجب الكفر؛ (وهذه عبارته) تراه يلتف على هذا الاعتراف بطريقة بهلوانية لتفريغه من مدلوله
ومحتواه، وذلك:
1- بالإشارة إلى ما يناقضه من (البيانات المفصلة المكررة) الموجودة في
كتب ابن عربي [2] .
2- وبترداد خرافة الدس في كتب ابن عربي.
3- وبأن ابن عربي ليس بدعاً في أن يوجد في آثاره كفر وإيمان؛ فابن تيمية
مثله عنده هذا وهذا!
ولا شك أن هذه النقطة الثالثة اكتشاف جديد فتح الله به على الشيخ البوطي،
وهو يحس بهذا الفتح، فتراه يبدئ فيه وبعيد، وكأنه يتصور أن هذا الفتح هو الذي
سيلجم الخصوم، ويلقمهم حجراً لن يستطيعوا بعده كلاماً ولن يحيروا جواباً! وهو
في غمرة نشوته بهذا الفتح الذي ادُّخر له إلى هذا العصر يسترسل في جلاء هذه
النقطة حتى لا يبقى على عينها قشة! فيأتي ببدائع أخرى ما نظن أنه سُبق إليها،
فقضايا الكفر والإيمان داخلة في مبدأ حسن الظن، والعقائد والعبارات الدالة عليها
خاضعة - في رأيه - لأنواع من التأويل والاحتمال،» وإن كان لا بد من تأويل
العبارات الباطلة لتتحول إلى حق فنحافظ بذلك على حسن ظننا بصاحبها، أو من
تأويل كلامه الحق ليتحول إلى باطل فنجعله معتمدنا في إساءة الظن به، فإن مما لا
يرتاب فيه المسلمون قط (لاحظ هذا الجزم) أن الواجب هو تأويل الباطل بما يتفق
مع الحق الذي عرف الرجل به لا العكس «.
إن هذا العبث الذي يلبسه البوطي ثوب الجدية يلتقي مع العبث الذي يهذي به
اللادينيون الذين يهيمنون على أجهزة التوجيه والثقافة في ردهم على دعاة الإسلام،
مع فرق واحد وهو أن البوطي يجعل من هذا الكلام قاعدة يريد تطبيقها على ابن
عربي وأمثاله، وهم يطبقونها على أنفسهم، ويطاردون بها من يقف في وجه
ميوعتهم وزندقتهم، حيث إن كثيراً منهم يحمل أسماء إسلامية، وقد يقوم ببعض
الشعائر الإسلامية، في الوقت الذي يلاحق فيه كل قضية إسلامية عملية وحيوية،
فإذا ما قال لهم أحداً لا؛ جابهوه بهذا الكلام الذي يختلط فيه الحق بالباطل،
ويستشهد فيه بالحق على الباطل، والذي ينبع خطره من التوائه وغموضه
واستشهاده بمسلَّمات إسلامية من أجل التحلل من الإسلام. وهؤلاء العلمانيون
اللادينيون لا يخفون إعجابهم بمثل ابن عربي الذي يهتف بمبدئهم ودينهم:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ... فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبة طائف ... وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبَّ أَنَّى توجهتْ ... ركائِبُهُ، فالحبُّ ديني وإيماني [3]
إن هذه السنة التي يستنها البوطي؛ وهي وجوب تأويل الباطل ليتفق مع
الحق؛ فيها من الجرأة بقدر ما فيها من الجهل، فضلاً عن أنها مستحيلة عند
التطبيق، حتى من قبل الدعاة إليها. فسلوك البوطي مع خصومه مخالفة عملية لهذه
السنة التي يرفع لواءها، فهل هو يحمل باطل خصومه على ما يعرفون به من حق
حين يطلق لسانه فيهم وينعتهم بما ينعتهم به؟ ! وهبه اطلع على ما نكتبه حول
كتابه الذي ما أحببنا - والله - أن يكون قد كتبه، لما فيه من الإساءة إليه وإلى لقبه
العلمي، ووددنا لو تصدق فيه أسطورة أن هذه الترهات قد دُسَّت عليه، كما يصدِّق
هو هذه الأسطورة في كتب ابن عربي،.. نقول: هبه اطلع على هذه المقالات في
نقد ما كتب؛ فكيف سيستقبلها؟
هل سينشرح لها صدره ويحسن الظن بكاتبها؟ ! إن ما عرف به مخالف لهذه
السنة التي يبشر بها.
إن هذه الدعوة هدم لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إماتة للفكر
الصحيح البعيد عن الزغل في دنيا المسلمين، وإشاعة لمبدأ:» أغمض عينيك
واتبعني «، وترك الحبل على الغارب لكل من يقول قولاً دون الالتزام بمبدأ خير
القرون، فمهما قرأ المسلم أو سمع عن شخص قال كذا وكذا - مما فيه نظر -
فليس له أن يستجلي حقيقة هذا القول بل عليه أن يذهب ويفتش ملف هذا الشخص:
هل فيه شيء من الخير، فإن وجد خيراً فليسكت، حملاً لما سمع من الباطل على
ما وجد من خير و (ظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبر) ، وإلا فهو سيئ الظن بالناس،
متعرض لما لا يعنيه، وهكذا لن يبقى هناك من يشار إلى أنه أخطأ في مسألة، أو
ترتب على رأي غير سديد له مشكلة، أو سرت آثار بدعته في الأمة حتى اتسع
الخرق على الواقع، وأصبح اقتلاع هذه البدعة متعسراً أو متعذراً، وهكذا سيجلس
أمثال: الجعد بن درهم، والحلاج، وابن عربي، وابن الراوندي، والنصير
الطوسي، مع مثل: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وابن المبارك،
والليث بن سعد.. إخواناً على سرر متقابلين! حيث إنه من» المعلوم والمؤكد «
أن كل من قيل فيه أو أنكر عليه شيء في التاريخ الإسلامي لا يخلو من جانب من
جوانب الخير، حتى اللصوص وقطاع الطرق والظلمة والطغاة في كل عصر لا
يخلون من ذلك، بل إن البدعة لا يصعب تمييزها ويقع الناس فيها إلا لخفائها عليهم
من جراء اختلاطها بجانب من جوانب الخير، فهل نترك القول في ذلك حتى لا
نرمى بإساءة الظن، وهل ترك هو النكير على مما سماه (بدعة السلفية) حتى يكون
لدعوته وثاقة؟ ليتذكر القارئ ركن:» التخبط والتناقض «من أركان منهج
البوطي.
ألا يعلم الشيخ أن علماً قائماً بنفسه، خاصاً بالمسلمين، ومفخرة من مفاخرهم
قد قام على ما يخالف دعوته هذه، وهو علم الجرح والتعديل؟ وهل على ما
استشهد عليه يُسْتَشْهَدُ بالآية الكريمة: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ
إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ] ؟ !
ابن تيمية تحت طائلة التهديد:.
ثم يختم حاشيته بتهديد ابن تيمية بأن يضعه تحت طائلة التكفير، أو بكف
الإشارة إلى كفريات ابن عربي، لأنه إن لم يفعل ويرتدع عن التعرض لابن عربي؛ يكون قد جنى على نفسه بنفسه (والبوطي لا ذنب له في ذلك) ودعا الناس (بلا
ريب) أن يكفروه بسبب ما عنده من ضلالات فلسفية! لكن يا لهول هذه الخاتمة ويا
لسوء عاقبة من يأخذ بها! إنه الورع يأخذ بحجزة الشيخ البوطي أن يقتحم هذه
المخاضة! وهو الورع نفسه يفتقده ابن تيمية فيأبى إلا أن يحملنا على تكفير ابن
عربي. هذا وجه من وجوه فهم عبارة الشيخ!
ولكن مهلاً، هناك وجه آخر؛ كيف يتورع البوطي ويتحرج من شيء لا يد
له فيه ولم يفعله هو، بل هو» دعوة بلا ريب من ابن تيمية «إلى تكفير ابن تيمية؟ ! أرأيت؟ ! ابن تيمية يدعو الناس إلى تكفيره ويلح عليهم أن يدعوا إلى تكفيره ولكن الشيخ البوطي يشهد:» أن دين الله عز وجل يأبى أن ندعو بهذه الدعوة، كما أنه يحذر من الانصياع لها «.
فالورع إذن ليس من أجل سواد عيني ابن تيمية خوفاً من أن يظلم أو يُفترَى
عليه؛ بل تورعاً عن استجابة دعوته الملحة للناس أن يكفروه! فأي جريمة وأي
ذنب يماثل ذلك؟ ! وكيف يقدم مثل البوطي على ذلك؟ هاهنا الورع يتدخل، فيحل
المشكلة!
هذا كلام له خَبئٌ ... معناه ليست لنا عقول!
وبقي غموض يسير يحتاج إلى تجلية وهو مرجع الضمير في الفعل» نكفره «من قوله:» فإنها لدعوة منه بلا ريب إلى أن نكفره «فقد رجعته حينما شرحت
كلامه إلى الناس (ومنهم البوطي) ، وقد يكون مرجعه الشيخ البوطي نفسه فقط! كما
يقال: نحن الملك، أو نحن رئيس الجمهورية نرسم بما يلي، وأي المعنيين اختار
القارئ فهو مصيب، ويصعب على الناقد الحكم: أي المعنيين أبلغ!
عود على بدء:
ولكن عجباً! يبدو الشيخ البوطي وكأنه يكتب رسالة تهديدية إلى ابن تيمية،
وبينهما قرون طويلة! ألا يعلم الشيخ - أطال الله عمره - أن ابن تيمية الآن في
مقام الذي لا يستطيع أن يقبل أو يرفض فيوجه إليه هذا الإنذار النهائي؟ !
إنه الأدب يا صاحبي.
ومن صَحِبَ الليالي عَلَّمَتْهُ ... خداعَ الإلفِ والقيلَ الُمحالا
وغيَّرت الخطوبَ عليه حتى ... تريهِ الذرَّ يحملنَ الجْبالا
خاتمة التعليق على الحاشية:
أنت - أيها القارئ الكريم، أمام البوطي - أحد رجلين:
1) إذا لم تعجز عن تصديق ما يقول؛ وساعدتك قواك العقلية والنفسية على
الإيمان بأن قوله هو المتفق مع كتاب الله، والمنسجم مع هدي رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فأنت متدبر للحق، محرر قلبك من شوائب: العصبيات والأهواء.
2) وإذا - لا سمح الله - عجزت عن ذلك لسبب من الأسباب - والأسباب
كثيرة! - فأنت على الضد من ذلك، يقول:» ولعل كل متدبر للحق، محرر قلبه
من شوائب العصبيات والأهواء، لا يعجز كل عن تصديق ما أقول، وعن اليقين
بأنه المتفق مع كتاب الله، والمنسجم مع هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم «.
إنها دعوة تهديدية للموافقة، فمن يحب أن يكون معرضاً عن الحق؟ ، مملوءاً
قلبه بشوائب العصبيات والأهواء؟ ! لا خيار لقارئ الشيخ البوطي، وكأن هذا
الأسلوب التسلطي متأثر بالمناخ الذي يخيم على بلادنا العربية وشعوبنا الإسلامية،
والاستفتاءات التي تطالعنا كل بضع سنين، والتي لا خيار لك فيها إلا أن تقول:
نعم، وإلا فأنت عميل، أو خائن، أو طابور خامس، أو غير ذلك مما في معاجم
تجار الشعارات من الأوصاف المقززة وعندها فالويل والثبور لك!
وقد تكرر منه أمثال هذه العبارات التي تدل بمنطوقها ومفهومها على أن طرق
المعرفة كلها ينبغي أن تُسَدّ، إلا ما يوصل إليه، مع أنه ينعى على هذا الأسلوب
التسلطي الذي يمنيك وينعم عليك بكريم الأوصاف تحريضاً على موافقته على
استنتاجاته، فإن لم تفعل وكان عندك تحفظ ما؛ سلّط عليك عكس تلك الأوصاف
صراحة أو بمفهوم المخالفة.
في العدد القادم الحلقة الأخيرة